• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لنحقق أسباب النصر في الغيبة والظهور

عمار كاظم

لنحقق أسباب النصر في الغيبة والظهور

في القرآن الكريم، نجد أنّ للغيب دوراً في بعض ما أعدّه الله للمؤمنين من النصر، ولكنّ الغيب وحده لا يحكم الحياة حسب سنّة الله في الكون، بل هناك حركة، وهناك غيب يحرّك بعض الظروف والأوضاع، ويمنح بعض القوّة لهذه العناصر، وهذا ما لاحظناه في بداية الدعوة الإسلاميّة، فقد أراد الله للمسلمين أن ينتصروا في بدر، ولم تكن هناك أيّ ظروف موضوعيّة من خلال عناصر القوّة في واقع المسلمين في بدر.

ففي دراستنا للقرآن، نلاحظ أنّ المسلمين لم يدخلوا في تجربة الحرب، ولم يكن لهم من خلال ظروفهم الطبيعيّة الموضوعيّة، أي عناصر للقوّة من الناحيتين المادية والمعنوية في الدائرة الاجتماعية، بل كان العدوّ هو الذي يملك القوة المعنوية والمادية كلّها. فنحن نلاحظ أن قريشاً كانت سيّدة العرب، باعتبار موقعها كراعية للبيت الحرام الّذي يحجّ إليه كلّ الناس، وقوتها الاقتصادية من خلال رحلتي الشّتاء والصيف، وموقعها الثقافي، إضافةً إلى ما نصطلح عليه في هذه الأيّام بالقوّة السياسيّة، وربما يلمح الإنسان شيئاً من القوّة العسكريّة، بينما كان المسلمون الّذين أسلموا مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لا يتمتّعون بكثير من هذه المواصفات، لأنهم كانوا يمثّلون أفراداً من مجاميع مختلفة ومتنوّعة، وأراد الله هنا أن يدخلهم في قلب التجربة، وعندما انفتحوا على التجربة الصّعبة، برزت عناصر الضّعف فيهم، وهذا ما عبّر عنه الله سبحانه وتعالى بقوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ}. فنحن نلاحظ أنّ هؤلاء المؤمنين كانوا يجادلون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنّ بعضهم قال: «يا رسول الله، هذه قريش ما ذلّت منذ عزّت». ولكن بعضهم ـ وهم القلّة ـ قالوا: «يا رسول الله، لن نقول لك كما قال قوم موسى لموسى، اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون، ولكنّا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك».

«وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ»، حتّى إنهم عندما دخلوا في التجربة، تمثّلت نقاط الضّعف في الاستغاثة: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم». فالله سبحانه وتعالى أعطى الغيب دوره بهذا الإيحاء، بوجود الملائكة في الساحة. ويبدو من خلال ما نستفيده من القرآن وبعض الروايات، أنّ الملائكة كانوا يمثّلون قوّة معنويّة تعطي للمسلمين قوّة ماديّة، وهكذا انتصر المسلمون.

فهناك جانب من الغيب تدخّل ليقوّي هذا الجانب المادّي الضّعيف. ونلاحظ في آية أخرى، قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ»، فالصّورة هي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين معه، ساروا في خطِّ النّصر، وقطعوا شوطاً بعيداً ووقتاً طويلاً، حتى أصيبوا بما يشبه الزّلزال، وكادوا أن يصلوا إلى حافة اليأس، وبشّرهم الله سبحانه وتعالى بأن نصره قريب. ونلاحظ كذلك في واقعة الأحزاب، كيف أن الله سبحانه وتعالى أدخل المسلمين في التجربة الصّعبة: «وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً»، ولكنّ الله سبحانه وتعالى كفى المؤمنين القتال، ونصرهم بعد أن عاشوا التجربة الصّعبة.

 

سر التربية القرآنيّة

ومن هذه اللّقطات التي تمثل نماذج يكثر أمثالها في القرآن الكريم، نخلص إلى أنّ الله سبحانه وتعالى لم يجعل الغيب في حركة المسلمين والمؤمنين في خطّ النّصر، العنصر الوحيد، بل إنه يدخل المؤمنين في التجربة الصعبة، ويبتليهم، ويحرك الطاقات الكامنة في داخل مواقعهم، حتى يعطيهم الصلابة أكثر، وحتى يعيشوا التجربة بقوة وفاعلية أكبر، وحتى يؤسّسوا المجتمع القويّ الذي إذا واجهته التحدّيات، استطاع أن يثبت إزاءها، وهذا هو سرّ التربية القرآنية الإسلاميّة، التي تؤكّد للإنسان أن يقدّم كلّ ما عنده ثم يدعو الله، وأن يأخذ بالأسباب المتاحة بين يديه، وكلّ ما يمكن أن يحصل في حركته في الواقع، ثم يتوكّل على الله.

ولذلك، فإنّنا نرى أنَّ في الإسلام حركة غيب تطلّ على حركة الواقع، بحيث ينفذ إلى الثّغرات الموجودة في الواقع من أجل أن يسدّها لتتكامل المسيرة، وربما تتعلّق إرادة الله بأنّ النصر لن يتحقّق إلا بعد أن تتجاوز الأمّة كثيراً من الظّروف الصّعبة على مستوى الأجيال، ولكن كلّ حركة تهيّئ الظّروف الموضوعيّة للحركة الأخرى، حتى تتكامل مع الظروف في المستقبل، ليكون النّصر في نهاية المطاف.

ارسال التعليق

Top