تُعدّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمّ الفرائض الدينية، فورد التأكيد الكبير عليها في الآيات القرآنية المباركة والسيرة العطرة للأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، بل اعتُبرت من ضروريات الدِّين. قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ (آل عمران/ 110). دأب القرآن الكريم على تقديم الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر؛ ذلك أنّ زيادة المعروف في المجتمع وشيوع الأمر به يؤدِّي في نهاية المطاف إلى التقليل من المنكرات، وبعبارة أُخرى: بفتح أبواب المعروف تُغلق أبواب المنكر. وقال أيضاً: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا... * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ (آل عمران/ 103-105). وبهذا يتبيّن أنّ القرآن يؤكد على أنّ التفاهم والوحدة والاتفاق بين المسلمين مبدأ لجميع أنواع المعروف، وأنّ الاختلاف والتفرقة أقبح المنكرات.
هناك أحاديث كثيرة وردت عن الأئمّة (عليهم السلام) في خصوص فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها على سبيل المثال: أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «مَن أمرَ بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسول الله، وخليفة كتابه». وقال الإمام الباقر (علیه السلام) حول أهمّية هذه الفريضة الإلهية وآثارها الإيجابية في المجتمع: «إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصُّلحاء، فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتُردّ المظالم، وتُعمَّر الأرض، ويُنتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر». فنرى أنّ الإمام أبا جعفر الباقر (علیه السلام) أشار في هذا الحديث إلى الأبعاد المختلفة والآثار العديدة المترتبة على العمل بهذه الفريضة، على المستوى العقدي والثقافي والأخلاقي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ وهذا يعكس مدى أهمّية مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودوره في إصلاح المجتمع الإسلامي.
لا شكّ في ضرورة اتّخاذ أساليب صحيحة وطُرق مناسبة لأداء هذه الفريضة الإلهيّة؛ لأنّه أمر بديهي، وكفى لإثبات أهمّية تعلُّم أساليب مختلفة لهذا العنصر الأصيل وتنوّع صوره وأشكاله أنّ القرآن الكريم حدّثنا عن أساليب متنوّعة قام بها الأنبياء (عليهم السلام) للتبليغ ودعوة الناس إلى الفضائل وإبعادهم عن الرذائل، وأوضح أنّ منهجية دعوة الأنبياء قائمة على هذا التنوّع، ومن هذه الأساليب أنّه خاطب نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ (الشعراء/ 214)، وكذلك قال: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل/ 44). وعلى هذا الأساس؛ اختار الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وبتوجيه إلهيّ ـ أفضل الأساليب وأكثرها تأثيراً عند التعاطي مع الظروف المختلفة للمخاطبين، وميّز عن طريق الأساليب العامّة والجزئية بين المناهج الدائمة والمؤقتة وبين الحلول والإستراتيجيات. ومن الشواهد على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) استفاد من أساليب مختلفة في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دعوة الناس آحاداً وجماعات وفي أشق لحظات الدعوة، باللين والمرونة تارةً والشدّة والغلظة أُخرى؛ ومن هنا، يتحتم لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر الاطّلاع على الأساليب المختلفة في هذا الصدد والاستفادة منها في الوقت المناسب؛ لأنّ احتمالات نجاح الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر تختلف باختلاف الطرق والأساليب حتى في المجال الواحد أيضاً، فيمكن إحراز النجاح التام عند استعمال أُسلوب معيّن والإخفاق عند استخدام أُسلوب آخر في الموضوع ذاته. ومن هذا المنطلق، قال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن أمرَ بمعروفٍ فليكنْ أمرُه ذلك بمعروفٍ».
من الجليّ أنّ هناك عوامل عديدة أسهمت في حدوث ثورة الإمام الحسين (علیه السلام) ونهضة عاشوراء، أهمّها: إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ يمكن استكشاف تلك الأهمّية عِبر مواقف الإمام في الأوقات المختلفة، ومكاتباته، ووصاياه وخُطبه، وكذلك البحوث الروائية والتاريخية، بل ونصوص الزيارات أيضاً؛ فيُستفاد منها جميعاً أنّ أهمّ عامل من العوامل التي فجّرت ثورة عاشوراء هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إنّ هذه الميزة هي التي رفعت قيمة النهضة الحسينية وأكسبتها مزيداً من التقدير والاحترام؛ ولذا ثار الإمام الحسين (علیه السلام) لأجل إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجاء ذلك على لسانه حينما قال: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب». فاتّضح بذلك أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) جعل الهدف الأساس من قيامه هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّ هذا المبدأ ضمان لبقاء الإسلام، ينعدم الإسلام بانعدامه؛ لذا عُرِف مَن بقي من عائلة الإمام الحسين (علیه السلام) بعد واقعة كربلاء بأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعملوا بعد يوم عاشوراء على إقامة هذه الفريضة المهمّة أينما حلّوا.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق