يطل الطفل على العالم الخارجي من خلال حواسه وهي السمع والبصر واللمس والشم والذوق ويختلف الأطفال فيما بينهم في مدى اعتمادهم على حاسة معينة أكثر من الحواس الأخرى، فمثلاً يعتمد بعض الأطفال على حاسة البصر أكثر من غيرها في التواصل مع العالم الخارجي، هؤلاء الأطفال يجيلون أبصارهم كثيراً فيما حولهم، وتلفت نظرهم الأشكال والألوان المختلفة، وأقرب طريق إلى قلوبهم هو الطريق البصري، كأن يقوم من يداعبهم برسم تعابير معينة على وجهه أو وضع قبعة على رأسه، أو الإمساك بكرة ملونة بفمه وهكذا..
هناك أطفال آخرون يعتمدون على حاسة السمع في التواصل مع العالم الخارجي فهم يلتفتون إلى أي صوت جديد يسمعونه كما أنهم يتفاعلون كثيراً مع الموسيقا والغناء والمداعبة الكلامية، ومن الأطفال من يعتمد على حاسة اللمس فنجدهم يتلمسون كلّ ما تصل إليه أيديهم ويحبون المداعبة باللمس والدغدغة وتحريك أيديهم وأرجلهم وهكذا..
إنّ مهمة الوالدين اللذين يعتنيان بالطفل أن يفهما النمط الحسي الخاص بطفلهما أي الحاسة التي يفضل التواصل مع العالم الخارجي بواسطتها لكي يتفاعلاً مع الطفل من خلال هذه الحاسة. عندما نقول أنّ الطفل يستخدم حاسة معينة أكثر من الحواس الأخرى فهذا لا يعني أن لديه ضعف في الحواس الأخرى فالطفل الذي يستخدم حاسة البصر لا تكون لديه مشكلة في السمع والذي يفضل استخدام حاسة السمع لا تكون لديه مشكلة في البصر لكنه يفضل استخدام أحد الحاستين أكثر من الأخرى ونستطيع أن نشبه الحواس هنا بالنوافذ فكل الأطفال لديهم نفس النوافذ (إلا إذا كان الطفل يعاني من خلل فيزيولوجي في حاسة معينة كأن يكون عنده ضعف في السمع أو في البصر) لكنّ كلاً منهم يفضل نافذة معينة يطل منها على العالم الخارجي. إن إدراك هذه الحقيقة العلمية هو أمر في غاية الخطورة، فكم من الأطفال اسيء فهمهم ولم يُعطوا حقهم من التفاعل العاطفي لأنّ أمهاتهم وآباءهم ومن يعتنون بهم لم يدركوا نمطهم الحسي المفضل.
يروي عالم النفس الأمريكي غرينسبان في كتابه (بناء العقول السليمة) تجربته مع آلاف الآباء والأُمّهات الذين استطاعوا أن يحققوا تقدماً هائلاً في التفاعل والتواصل مع أطفالهم من خلال إدراكهم لنمطهم الحسي المفضل. ففي إحدى القصص كان الأب يحب الموسيقا والغناء، وكان يحلم في أثناء حمل زوجته كيف سيعزف أمام ابنه ويغني له، ويتخيل ابنه وهو يضحك ويمرح متفاعلاً معه، غير أنّ الذي حدث هو أنّ الرضيع لم يكن يستجيب لعزف والده وغنائه في حين كان يميل إلى أمه كثيراً ويتفاعل معها بشكل أفضل. أصيب الوالد يخيبة أمل، وظن أن ابنه لا يحبه، وتوترت علاقته مع ابنه، ومع زوجته أيضاً التي أصبح يغار منها لما يراه من تفاعل ولده معها وأنسه بها. وعندما استشار الوالدان الاختصاصي النفسي شرح لهما أنّ النمط البصري هو النمط المفضّل عند ولدهما، وأنّه يميل إلى والدته أكثر لأنها تتواصل معه من خلال الحاسة البصرية فترسم تعابير مختلفة على وجهها وتلّوح له بالألعاب المثيرة والكرات الملونة، وعندما أدرك الأب ذلك، وأصبح يتواصل مع ولده بصرياً تفاعل الطفل معه وتحقق الانسجام والتآلف بينهما. إن إدراك الحاسة المفضّلة عند الرضيع لا تساعد على التواصل معه فحسب وإنما نستطيع من خلال هذه الحاسة أن نغري الرضع باستخدام الحواس الأخرى وتفعيلها فمثلاً إذا كان الرضيع لا يتفاعل مع الأصوات كثيراً نستطيع أن نبدأ اللعب معه بإثارة حاسته البصرية بالحركات والألعاب المختلفة ثمّ بعدها نبدأ بمناغاته والحديث إليه لنقوي عنده القدرة على استخدام حاسة السمع. بعد فترة وجيزة سيصبح الرضيع قادراً على التفاعل معنا من خلال الأصوات فقط إذن القاعدة هنا: اكتشفي النمط الحسي الخاص بطفلك وتواصلي معه من خلال هذا النمط وعندما يصبح الطفل في حالة من التفاعل والانسجام معك أشركي الأنماط الحسية الأخرى في هذا التفاعل لتعوديه على استخدامها.
فإذا كان طفلك مثلاً يفضل النمط اللمسي فلن يتفاعل معك إذا غنيت له أو حركت لعبة ملونة أمام ناظريه، لكنه سيبتهج ويضحك لو أنك دغدغت وجنتيه أو حركت يديه وقدميه ثمّ بإمكانك بعد ذلك أن تثيري نظره بالحركات والألعاب أو أن تثيري سمعه بالمناغاة والغناء. كم من الأطفال ظُلموا بسبب جهل آبائهم وأُمّهاتهم بهذا الأمر وخصوصاً عندما تتم مقارنة الطفل بأخيه. فحسان مثلاً وهو الطفل الأوّل لأبويه كان يفضل استخدام حاسة السمع في التواصل مع العالم الخارجي، ولذلك كان يبتهج كثيراً ويتفاعل مع والديه حينما يناغيانه ويغنيان له ويتحدثان إليه، وعندما رُزقا بأحمد ذي النمط البصري لم يكن يستجيب لهما كأخيه، مع أنهما كانا يبذلان ما بوسعهما في الحديث إليه والغناء له، واصطناع الأصوات المختلفة، واستنتج الأبوان أن أحمد (أقل انفتاحاً من أخيه) وأن مزاجه (أصعب) من مزاج أخيه، ولأنّه لم يكن يستجيب لهما قلَّ تواصلهما معه، ونستطيع الآن أن نتخيل فرص النمو العقلي والعاطفي والجسدي الهائلة التي حُرم منها أحمد لأن أبويه لم يعرفا نمطه الحسي المفضل.
لا يكفي إدراك الحاسة المفضلة عند الطفل بل يجب أن ندرك الأنماط التي تفضلها هذه الحاسة فالطفل الذي يفضل استخدام حاسة السمع قد تثيره وتعجبه الأصوات الناعمة، وقد تثيره وتعجبه الأصوات الخشنة. في إحدى الحالات مثلاً كانت الأُم تشكو من أن رضيعها لا يتفاعل معها جيداً في حين كان تفاعله وانسجامه مع والده أفضل بكثير، وعندما عُرضت الحالة على الاختصاصي النفسي تبين له من خلال مراقبة الطفل أنّه يفضل الأصوات الخشنة، وينفر من الأصوات الناعمة، وشرح للأُم كيف أنّ الطفل يميل إلى والده بسبب طبيعة صوته الخشنة، وطلب منها أن تغير من طبقة صوتها حينما تتحدث إلى رضيعها، وكانت النتائج مذهلة. كذلك بالنسبة إلى الأطفال أصحاب النمط البصري فبعضهم يحبون الألوان والبعض الآخر تجذبهم الحركات أما الأطفال أصحاب النمط اللمسي؛ فمنهم من يحب الدغدغة والمداعبة اللطيفة، ومنهم من يرتاح للحركات القوية والعنيفة.
الخلاصة: يجب على الأُم والأب ومن يعتني بالطفل أن يكتشفوا من خلال الملاحظة والتجريب النمط الحسي المفضل لديه. إن اكتشاف النمط الحسي الخاص بالطفل هو أمر في غاية الأهمية، لأنّه النافذة التي يمكن من خلالها تحقيق التواصل بين الطفل والعالم الخارجي، هذا التواصل والتفاعل هو الذي يحفز النمو والتطور العاطفي والعقلي والجسدي عند الطفل منذ الأسابيع والشهور الأولى في حياته.
المصدر: كتاب الذكاء العاطفي في الأسرة للكاتب د. ياسر العيتي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق