◄في كلّ عام يُطالعنا موسم الحج المبارك بنسمات إيمانية تؤجج الشوق في القلوب إلى الأماكن المقدسة والشعائر المعظمة. فقد جعل الله سبحانه وتعالى الحج أشهراً معلومات، وفرضه على من استطاع إليه سبيلاً، وجعل له منزلة كبرى وفضائل عظمى في غفران الذنوب، وآثاراً جليلة في التطهر من الآثام. قال رسول الله (ص): "حُجّوا فإنّ الحجّ يَغسِلُ الذنوب كما يغسِلُ الماء الدّرَنَ".
يقول الله سبحانه وتعالى في مُحكَم آياته: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج/ 27).
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الحج والعمرة موضحاً منزلتهما الكبرى، ومكانتهما العظمى. كما تكفّلت السنّة النبوية المطهّرة ببيان مناسك الحج وفضائله.
والذي جاء فيه أنّ الله، سبحانه وتعالى، جعل الحج إلى بيته الحرام ركناً من أركان الإسلام، وأكرمنا باتّباع خير الأنام، سيدنا محمّد رسول الله (ص) القائل: "لتأخذوا مناسِكَكُم فإني لا أدري لعلّي أحُجُّ بعد حجّتي هذه".
والحج ركنٌ من أركان الإسلام، وفريضة ثابتة في القرآن والسنّة والإجماع، قال الله سبحانه وتعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) (آل عمران/ 97). وعن عبد الله بن عمر (رض) قال: قال رسول الله (ص): "بُنيَ الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان". ومتى قدر المسلم على الحج فيجب عليه أن يُبادر به فوراً، وهذا رأي أكثر العلماء.
المعاني الإيمانية في الحج:
في الحج مَعان عجيبة، وتأمُّلات مهمة لا ينبغي أن تغيب عن بال المُسلم ولا المسلمة، ومن ذلك أنّ على الحاج أن يتذكر عند مُفارقته لأهله ووطنه مفارقته للدنيا، ومع لبس ثياب الإحرام عليه أن يتحلّى بالتقوى (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) (الأعراف/ 26). وإذا لبّى فليعلم أنّ معنى التلبية إجابة نداء الله عزّ وجلّ، وإذا وقع بصره على البيت العتيق فعليه أن يستشعر عظمته في قلبه، ويشكر الله تعالى على أن بلّغه هذه الرتبة وألحقه بزمرة الوافدين عليه.
ويستشعر الحاج عند الطواف بالبيت بأنّه متشبّه بالملائكة المقرّبين الحافّين من حول العرش، ولا يَظُن أنّ المقصود طواف جسمه بالبيت، بل المقصود طواف قلبه بذكر ربّ البيت، وإذا تسلّم الحجر فكأنّه مُبايع لله عزّ وجلّ على طاعته، فعليه أن يعزم على الوفاء ببيعته، فعن عبد الله بن عباس (رض) قال: قال رسول الله (ص): "يأتي هذا الحَجَرُ يوم القيامة له عينان يُبصِرُ بهما، ولسانٌ ينطقُ به، يَشهَدُ لمن استلمهُ بحقٍّ، وإذا سعى المسلم بين الصفا والمروة، فإنّه يرجو أن ينظر الله تعالى إليه بعين الرحمة.
فإذا وقفت أيها الحاج بعرفة فاذكر بما ترى فيه من ازدحام الخلق وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم موقف القيامة، حيث تنتظر الخلائق رحمة الله عزّ وجلّ.
فإذا رميت الجمار: فاقصد بذلك التسليم لأمر الله تعالى، والاقتداء بخليل الرحمن إبراهيم (ع)، حيث عرض له إبليس في ذلك الموضع فأمره الله عزّ وجلّ أن يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله. وإذا فرغت من المناسك فاسأل الله تعالى أن يجعل حجّك مبروراً وذنبك مغفوراً. وإذا توجهت إلى المدينة المنورة لزيارة النبيّ (ص) فتذكر أنّ هذه البلدة هي التي اختارها الله تعالى لنبيه (ص)، وجعل إليها هجرته، وفيها سكناه. وإذا وقفت عند القبر الشريف، فاعلم أنّ هذا المقام مقام هيبة وإجلال، ففرّغ قلبك من علائق الدنيا، واستحضر منزلة مَن أنت إلى جواره، ثمّ سلّم عليه ولا ترفع صوتك، وقُل: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خيْرَةَ الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين، السلام عليك يا خير الخلائق أجمعين، السلام عليك وعلى آلك وأهل بيتك وأزواجك وأصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر النبيين، وجميع عباد الله الصالحين، جزاك الله يا رسول الله عنّا أفضل ما جَزَى نبيّاً ورسولاً من أُمّته. وسَل الله عزّ وجلّ ألّا يُفرق في القيامة بينك وبينه.
فضل الحجّ:
ورد في فضل الحج أحاديث كثيرة، ونقتصر هنا على حديثين:
الأوّل: عن أبي هريرة (رض) قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: "مَن حجّ هذا البيت فَلَمْ يَرْفُث ولَم يَفسُق رجع كما ولدَتْهُ أُمّهُ".
الثاني: عن ابن عمر (رض) قال: كنت قاعداً مع النبيّ (ص) في مسجد منى فأتاه رجلٌ من الأنصار، ورجلٌ من ثقيف فسلّما، ثمّ قالا: يا رسول الله، جئنا نسألك. فقال: "إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألانني عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألانني فعلت". فقالا: أخبرنا يا رسول الله. فقال الثقفي للأنصاري: سل. فقال: أخبرني يا رسول الله. قال: "جئتني تسألني، عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام، وما لك فيه. وعن ركعتيك بعد الطواف، وما لك فيهما. وعن طوافك بين الصفا والمروة، وما لك فيه. ووقوفك عشية عرفة وما لك فيه. وعَن رميك الجمار، وما لك فيه. وعن نحرك وما لك فيه. وعن حلقك رأسك وما لك فيه. وعن طوافك بالبيت بعد ذلك وما لك فيه مع الإفاضة". فقال: والذي بعثك بالحقّ، عن هذا جئت أسألك. قال: "فإنّك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفاً ولا ترفعه إلّا كتب الله لك به حسنة ومحا عنك خطيئة، وأما ركعتاك بعد الطواف كعتق رقبة من بني إسماعيل، وأما طوافك بالصفا والمروة بعد ذلك كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة فإنّ الله تبارك وتعالى يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة، يقول: عبادي جاءوني شعثاً من كلّ فج عميق يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر لغفرتها. أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له. وأما رميك الجمار فلك بكلّ حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمذخور لك عند ربك، وأما حلاقك رأسك فلك بكلّ شعرة حلقتها حسنة ويُمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنّك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما تستقبل فقد غُفِرَ لك ما مضى" رواه الطبراني والبيهقي والبزار. وهذا حديث عظيمٌ، يُبين فضائل أعمال الحج، وما أعدّه الله للحجّاج من الأجر العميم.
وصايا للحجاج:
نوصي من أراد أن يتوجه إلى الحج أن يستعد له خير استعداد، وذلك من خلال الأمور التالية:
أوّلاً: أن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يختار له الأفضل والأحسن في شأنه من الصحبة والطريق والمركب.
ثانياً: أن يتوب إلى الله عزّ وجلّ، ويرد الحقوق إلى أصحابها إن وجدت، ويُرجِع الودائع، أو يوكل بها أميناً حتى يعود.
ثالثاً: أن يطلب المسامحة ممّن كان يعامله أو يُصاحبه، وأن يكتب وصيّته موضّحاً ما له وما عليه ويُشهِد على ذلك.
رابعاً: أن يترك لأهله ما يحتاجون من نفقة، فقد قال النبي (ص): "كفى بالمرء إثماً أن يضيِّع مَن يَعُولُ".
خامساً: أن يجتهد في إرضاء والديه وكلّ من يلزمه برّه، وتسترضي المرأة زوجها وأقاربها، ويُستحب للزوج أن يحجّ مع امرأته إن قدر على ذلك.
سادساً: أن يتحرّى النفقة الحلال الخالصة، فإنّ الله طيبٌ لا يقبل إلّا طيّباً، وأن يستكثر من النفقة ويواسي المحتاجين.
سابعاً: أن يختار الرفقة الصالحة من أهل العلم والصلاح، الذين يشجعونه على الطاعة والاجتهاد في الخير واستثمار الأوقات.
ثامناً: أن يتفقّه في أحكام الحج والعمرة عن طريق سؤال أهل العلم، ومُطالعة الكتب النافعة في ذلك.
أعمال الحج خطوة بخطوة:
فإذا أراد المسلم الحجّ فعليه أن يتنظف بتقليم الأظافر ونتف الإبط وقص الشارب، ثمّ يغتسل وهذا الغسل سنّة للإحرام وتغتسل الحائض وغيرها. ويجب على الرجل أن يتجرّد من المخيط، سواء كان كبيراً أم صغيراً، وأن يكشف رأسه، ثمّ يلبس لباس الإحرام وهو للرجل إزارٌ يلقه على وسطه، ورداء يضعه على كتفيه، ونعلان، والأفضل في الثياب البياض، ويُسنّ له بعد الاغتسال أن يُصلي ركعتين يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة (الكافرون)، وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة سورة (الإخلاص)، ولو قرأ غيرهما كفى. فأما المسافر بالطائرة فيمكنه أن يفعل هذه الأمور في بيته، ويؤخر الإحرام إلى أن يحاذي الميقات، لأنّ الإحرام قبل الميقات مكروه، إلّا إذا خشي أن يجاوز الميقات دون إحرام بسبب عدم معرفته لوقت الوصول إلى الميقات أو عدم تنبيه قائد الطائرة، فلا حرج أن يحرم بعد إقلاع الطائرة، فيحرم بالنسك الذي يريده من الأنساك الثلاثة. وأما المسافر براً فيمكنه فعل ما سبق في الميقات، ويستحب أن يؤخر نية الدخول في النسك حتى يركب سيارته.
أنواع النسك:
النسك: هو في الأصل العبادة، ويراد به هنا الحج أو العمرة، وهو على ثلاثة أنواع:
الإفراد، وهو: أن يحرم بالحج وحده، وهو أفضل أنواع النسك، فيقول: نويت الحج وأحرمت به لله تعالى. أو يقول: لبيك اللهمّ حجّاً.
القرآن، وهو: أن يحرم بالحج والعمرة جميعاً فيقول: نويت العمرة والحج، أو لبيك اللّهم عمرة وحجّاً.
التمتع، وهو: أن يحرم بالعمرة أوّلاً، فيقول: لبيك اللّهمّ عمرة. وله أن يقول أيضاً: لبيك اللّهمّ عمرة متمتعاً بها إلى الحج. ثمّ إذا فرغ من أعمال العمرة أحرم بالحج.
التلبية:
التلبية أثناء فترة الحج واجبة على الرجل والمرأة، والمرأة لا ترفع صوتها بالتلبية، والإتيان بعد نيّة الدخول في النسك واجبٌ، بحيث لا يفصل بين التلبية ونيّة الدخول في النسك بفاصل طويل، وعلى الحاج أن يحرم من الميقات، فلا يجوز له مُجاوزته.
وينوي المفرد الحج، فيقول نويت الحج. ويشترط لصحة النية أن يصحبها فعل كالمشي، أو ذكرٌ قولي بأن يقول لبيك اللّهمّ حجاً لبيك اللّهمّ لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك لا شريك لك. وينبغي للحاج أن يجدد التلبية ندباً كلما تجددت له حال كأن قام بعد جلوس، أو صعد بعد هبوط، أو استيقظ من نوم، وهكذا.
فإذا وصل إلى المسجد الحرام دخل من باب السلام إن تيسر له ذلك اقتداءً بالنبي (ص) ولا حرج في أن يدخل من غيره، وعند دخوله يقول: "بسم الله والسلام على رسول الله، اللّهمّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك". وإذا رأى الكعبة قال: "اللّهمّ زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً، وتكريماً ومهابة، وزد مَن شرّفه وعظّمه وكرّمه ممن حجّه واعتمره تشريفاً وتكريماً وبراً، اللّهمّ أنت السلام ومنك السلام فحيِّنا ربنا بالسلام، ويكثر من الدعاء.
الطواف:
ثمّ إذا أراد الطواف فيشترط أن يكون متوضئاً ساتراً لعورته، ويتوجه لاستلام الحجر الأسود فيُقبّله إن تيسر له ذلك من دون مزاحمة، وإن لم يستطع تسلّمه بيده ووضع يده على فيه، فإن لم يستطع بسبب الزحام فيُكبّر عند مقابلته فقط، ولا يصح لأحد المزاحمة للوصول إلى الحجر الأسود لما في ذلك من إيذاء الطائفين.
وإذا استلم الحجر الأسود فينبغي أن يتأخر قليلاً جهة الركن اليماني ثمّ يبدأ في الطواف من أجل أن يستكمل الطواف.
وينبغي في الشوط الأخير أن يتجاوز الحجر الأسود قليلاً احتياطاً، ثمّ يتم سبعة أشواط، فلو نَقَصَ من الشوط السابع مقدار شبر لم يتم طوافه، ويجب أن يجعل الكعبة عن يساره وكلما حاذى الحجر الأسود كبر ندباً.
ويرمل الرجل في الأشواط الثلاثة الأولى، والرمل هو حركة فوق المشي ودون الجري، وهو سنة وليس بواجب، ولا يطلب منه كشف كتفه اليمنى (وهو ما يعرف بالاضطباع)، ويكثر من الدعاء والتضرع في طوافه، ويدعو بما شاء من الدعاء، ويراعي عند الزحام البطء في حركة الطائفين.
ويُستحب أن يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة/ 201)، فإذا انتهى من الأشواط السبعة، صلّى ركعتين خلْفَ مقام إبراهيم إن استطاع وإلّا ففي أي مكان من المسجد.
ويجب أن يوالي بين أشواط الطواف، وبين الطواف والركعتين اللتين بعده، وبين الركعتين والسعي.
السعي:
ثمّ يتوجه إلى جبل الصفا، ثمّ يقف مستقبلاً الكعبة فيكبّر ويُهلل، فيقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلّا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
ثمّ يدعو ويُصلّي النبي (ص)، ثمّ ينزل ويمشي، ويهرول الرجال دون النساء بين العلمين الأخضرين، ثمّ يمشي حتى يصل إلى المروة، فذلك شوطٌ، فإذا وصل إلى المروة صعد عليها ويفعل كما تقدم في الصفا، وهكذا حتى يستكمل الأشواط السبعة، فيحسب ذهابه إلى المروة شوطٌ وعودته إلى الصفا شوط آخر، فيبتدئ بالصفا وينتهي بالمروة.
ويشترط في صحة السعي أن يسبقه طوافٌ، فإذا فرغ من السعي فينبغي أن يشغل نفسه بالتلبية وذكر الله تعالى، ويستمر المفرد والقارن على إحرامه إلى ثامن ذي الحجة.
وأما المتمتع فإنّه إنما أحرم بالعمرة فقط، فإذا أدّى طواف العمرة وسعيها فإنّه يتحلل بالحلق أو التقصير، ويكون قد انتهى من عمرته، ويحل له جميع المحظورات إلى أن يحرم بالحج في يوم الثامن من ذي الحجة.►
هذا جزء من بعض خطوات الحج...
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق