نقرأ في كُتُب التاريخ والسيرة أنّ فلاناً من الناس (أسلمَ) و(حَسُنَ إسلامه) ربّما من غير أن نتوقَّف عند التعبير لنسأل: كيف؟ أو لماذا؟ وهل هناك مَن يُسيءُ في إسلامه في مقابل الذي حَسُنَ إسلامه؟
ومادمنا بصدد الإجابة عن سؤالنا المحوريّ أو المركزيّ: كيف أكونُ مسلماً؟ فإنّ الجواب الشافي يتطلَّب منّا أن ننظر جيِّداً في مقولة أو وصف مَن أسلم وحَسُنَ إسلامه، إذ من المتعارف عند الناس، وعند المسلمين، أن ليس المسلمون كلّهم سواء في إسلامهم، وإن كانوا يشربون من ذات النهر (الإسلام) ويرتوون من ذات العقيدة (التوحيد) وينهلون من نفس الشريعة (أحكام الحلال والحرام)، فالتباين واضح والتفاوت بَيِّن لا بين المسلمين الأباعد، بل المسلمين الأقارب أيضاً.
إنّ مرجع ذلك ومنشأه ليس إلى التربية البيتية فقط، بل إلى (البحث عن الحقيقة)، فـ(سلمان المحمّديّ) الفارسيّ الأصل، كان باحثاً عن الحقيقة الكونية، لم يقبل بسياسة أو تربية (الأبواب المُقفلة) على الرغم من أنّ أباه حبسه خوفاً من أن يرتدّ عن دين آبائه؛ لكنّه (كسر الطوق) و(اخترق الحاجز) وراح يطرحُ أسئلته المعرفية الحادّة على ذهنه وعقله، وعلى كلّ مَن تتلمَّذ على يديه من رهبان وقَسسَة إلى أن اهتدى إلىى نور الإسلام على يدي رسوله المصطفى 6 هادي البشرية جمعاء.
لم يقف عند (محطّة) ليقول عنها إنّها (الأُولى والأخيرة) إلّا بعد أن تَيقَّن عقلاً وفعلاً ووجداناً أنّها كذلك، ولذلك ألقى رحاله في مضارب الإسلام! وحَسُنَ إسلامه حتى بلغ به أعلى المراقي وأرفع الدرجات.
نحنُ أيضاً، أبناء أُسرٍ مُسلمة، ولا يصدقُ أو يصحُّ على أحدنا القول بأنّه حَسُنَ إسلامه، حتى يَتبيَّن له الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من بحر الحقيقة الإسلاميّة!
والسؤالُ أيضاً: كيف يمكن لي أن (أُحسِن) أو (أُحسِّن) إسلامي؟
النبيّ (ص) يُجيبنا في بعض ما رُوِي عنه من بيانات: «الإسلامُ ثلاثةُ أبياتٍ (أي منازل): (سُفلى) و(عُليا) و(غُرفة)! فأمّا (السُّفلى) فالإسلام دخلَ فيه عامّةُ المسلمين، فلا نسأل أحداً منهم إلّا قال: أنا مُسلم!..
وأمّا (العُليا) فتفاضُل أعمالهم! بعض المسلمين أفضل من بعض.. وأمّا (الغُرفة) العليا، فالجهادُ في سبيل الله، لا ينالها (أي الغُرفة أو الدرجة) إلّا أفضلهم»[1].
(السُّفلى) تُرجعنا إلى بداية الحديث عن (الوقوف عند البوّابة)! فلا يقالُ للواقف هناك أنّه (دَخلْ) وإنْ (وَصلْ)!
و(العُليا) هي مُختَبرُ الإرادات والهمم، وميدان الأعمال والإنجازات، ولا يكون (التفاضل) إلّا ضمن (معايير) وهذه المعايير هي الكفيلة بإحرازنا صفةَ (حَسُن إسلامه)! سواء أكان التفاضلُ بـ(العلم) أم (العمل) أم (التقوى) أم (الجهاد) أم (الإحسان) على نحو عام.
و(الغُرفَةُ) العُليا من (بيت الإسلام).. طابقهُ العلويّ هو (الجهاد) في سبيل الله.
ولطالما ظلمنا مفهوم (الجهاد) بحصره في ميدان القتال، بل خنقنا سعته في مجاهدة الأعداء والكفّار والظالمين، ولو تَدبَّرنا معانيه الغنيّة الواسعة، لاستدعانا ذلك أن نُعيدَ النظرَ في الكثير من مناهجنا التعليمية، ودراساتنا التاريخية، ومعتقداتنا الفكرية.
(الجهادُ) في سبيل الله أوسعُ من (ميدانِ حربٍ) و(ساحةِ قتال)، هو هنا مفردة من المفردات، وعنوان واحد من جملة عناوين متنافسة ومتظافرة، وإذا قلنا بأنّ (العدوّ) ليس هو الذي يشهر السلاح بوجهنا، ولا هو الذي يستلبُ إرادتنا، ولا الذي يسرق مواردنا، ولا الذي يعتدي على مقدّساتنا فقط، بل كلّ عنوان يُراد به إضعافنا وإبقاءنا في كهف التخلُّف، وكلّ انحطاط أخلاقيّ، وفساد إداريّ، وجهل ثقافيّ، ونقص معرفيّ، ومراوحة في المكان الواحد لا نبرحه، كلّ أُولئك أعداؤنا، وكلٌّ يتطلَّب منّا أن نجاهده، ونكافحه، ونقضي عليه ما استطعنا من إعداد القوّتين: الميدانية والنفسية.
إنّ بناء الذات وتربيتها وإصلاحها.. جهادٌ في سبيل الله.
وإنّ محاربة الجهل.. جهادٌ في سبيل الله.
ومقاومة التخلُّف بجميع أشكاله.. جهادٌ في سبيل الله.
ومواجهة البِدع والضلالات.. جهادٌ في سبيل الله.
بل..
وبناء الإنسان ليكون إنسانَ الله.. جهادٌ في سبيل الله.
والإنفاق على المعسرين، وعلى المشاريع الخيرية والإنسانية.. جهادٌ في سبيل الله.
والاصطفاف (الثقافيّ، والمعرفيّ، والتربويّ) بوجه التحدّيات التي تتعرَّض لها بلاد المسلمين.. جهادٌ في سبيل الله.
وقد لا يُقتَل في هذه الميادين (مُجاهدٌ)؛ لكنّه (شهيد) لا بمعنى الاستشهاد والتضرُّج بدم الشهادة، شهيدٌ على القاعدين والمتقاعسين، والمخذَّلين والمتخاذلين، والمُحبَطين، والمؤيِّسين، والقانطين.
هذا ليس تلاعباً بالألفاظ وتدويرها، هذا استيحاء من عمق مفهوم (الجهاد) الذي ظلمهُ أهله في خنقه في خانة من خاناته، وليس هو تقليلاً من شأن مواجهة الأعداء في سوح الكفاح والشرف والممانعة، هو إعادةُ اعتبار ودعوة إلى إعادة النظر في مفاهيم وقيم الإسلام الحيّة، لأنّنا إذا وُفِّقنا إلى استيعاب هذه المعاني والدلالات لقيمة الجهاد، نكون قد ساهمنا في (تحسين إسلامنا).
وبناءً على ذلك، فإنّنا حينما نقرأ كلمات وصِيَغ التفضيل (أحسنهم إسلاماً) أو (أفضلهم إسلاماً) ينبغي أن يتبادر إلى أذهاننا أنّنا أمام صورة الإنسان المُسلم (المُحسَّنة) أو (الحَسِنة)، أو التي يريدُ المربِّي الإسلاميّ لتلميذه المُسلم الوصول إليها.
بقي أن نشير في خاتمة هذا المقطع، (الإجابة) عن السؤال الكبير، أنّ (الغُرفة) التي هي أعلى طوابق بيت الإسلام ليست (محجوزة) سلفاً! ولا هي (أماكن خاصّة) للذوات من المسلمين، هي متاحةٌ لكلِّ مُسلم يطمح ويسعى أن يكون هناك!
[1]- كنز العمّال، المتقي الهندي، ج4، كتاب الجهاد، الباب الأوّل (في الترغيب فيه)، رقم الحديث 10658، ص312.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق