• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا»

د. ياسر العيتي

«واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا»

◄(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران/ 103).

لايوجد دين كالإسلام يدعو إلى الوحدة والتعاون والتكافل، ويحذر من الفرقة والخصام والخلاف.

يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13).

فالعالم الذي يبشر به الإسلام هو ذاته العالم الذي تحلم به وتسعى إليه شعوب الأرض اليوم، عالم يسوده التعارف والتعاون والمحبة والسلام، عالم بعيد عن البغض والكره والظلم والتعصب والاستغلال والحروب والخلاف والشقاق.

إذا كان الاختلاف البنّاء أحد مكونات الذكاء العاطفي فإنّ الإسلام يحضنا على الاختلاف البنّاء، ويأمرنا أن نبحث عن المشترك مع الآخر، وأن نوسع دائرة هذا المشترك عن طريق التعاون في الأمور التي نتفق عليها والحوار البناء في الأمور التي نختلف فيها (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (آل عمران/ 65).

إنّ المسلم مأمور بالتعامل بالحسنى وبالحوار وبالكلمة الطيبة مع من يختلف معه من غير المسلمين (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125). (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصّلت/ 34).

إنّ ثقافة الانغلاق وإلغاء الآخر غريبة عن روح الإسلام ومضامينه، فالمسلم كما يقول محمّد إقبال:

مثلُ شمعِ الحَفْل وحيدٌ ورَفيق!

(وحيد) أي إنّه متميز بإسلامه، و(رفيق) أي إنّه منفتح على الجميع يشدهم بتوهج إيمانه ونور يقينه. إنّ المسلم لا يكتفي بالاستعداد للحوار مع الآخرين، بل هو الذي يسعى إلى هذا الحوار ويهيئ له ظروفه وأسبابه.

هذا الموضوع هو نداء موجّه إلى المسلمين لكي يعتصموا بحبل الله جميعاً ويكونوا صفاً واحداً في وجه أعدائهم، إذا كان الإسلام يحضنا على الحوار والتفاهم والتعاون والاحترام والدفع بالتي هي أحسن مع غير المسلمين، فمن البديهي أنّه يحضنا بل يأمرنا بالحوار والتفاهم والاحترام والتعاون والدفع بالتي هي أحسن فيما بيننا! لن يأتي ذلك اليوم الذي يتفق فيه المسلمون على مدرسة فكرية أو فقهية أو سياسية واحدة، ولكن من الممكن أن يأتي ذلك اليوم الذي يتعاون فيه المسلمون فيها بينهم على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم واجتهاداتهم، وذلك عندما يدركون أنّه من الممكن أن يظلوا مختلفين، وأن يتعاونوا على الرغم من اختلافاتهم، كما أدرك الأوربيون ذلك بعد مئات السنين من الحروب المؤلمة التي راح ضحيتها مئات الملايين من الناس. إنّ الحال التي آل إليها العالم اليوم وصفها الله تعالى في كتابه العزيز عندما نبأنا عن الفتنة والفساد والاضطراب الذي سيحل بالأرض عندما يوالي الكافرون بعضهم بعضاً، ويتقنون فن الاختلاف البناء، ولا يفعل المؤمنون ذلك فيما بينهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال/ 73).

عندما يتعلّم المسلمون كيف ينصت بعضهم إلى بعض إذا اختلفوا، وكيف يتجنبون الحكم على النيات، وكيف يتعاملون بموضوعية مع الأمور التي يختلفون فيها، فلا يعتقد كلّ طرف أنّه يقبض على الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وعندما يتعلم المسلمون الفرق بين الدين وفهم الدين فلا يسمي كلٌّ منهم فهمه للدين ديناً؛ فيصبح كلّ من خالف هذا الفهم خارجاً عن الدين أو كافراً.. عندما يتعلم المسلمون كلّ ذلك سيعرفون كيف يحولون اختلافاتهم إلى مصدر للغنى والتكامل والتنوع بدلاً من جعلها سبباً للفرقة والتناحر والنزاع.

إنّ المؤمن لا يعرف الانغلاق أو التعصب أو التقوقع، وهو حيثما تحرك يبحث عن نقاط الاتفاق مع الآخرين فيعززها ويوسعها حتى تحاصر نقاط الاختلاف. المؤمن منفتح على جميع الأشخاص والآراء والحضارات والأديان، وهو يعامل الجميع بإنسانية واحترام وإنصاف. المؤمن متميز بإسلامه ومبادئه وثوابته، لكن هذا التميز لا يدفعه إلى وضع الحواجز بينه وبين الآخرين بل يدفعه إلى مدّ جسور التواصل والتعارف معهم، وهكذا يوصل دعوته إلى الآخرين، ويساهم بدينه في بناء صرح الحضارة الإنسانية.►

 

المصدر: كتاب مافوق الذكاء العاطفي/ حلاوة الإيمان

ارسال التعليق

Top