• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

آفاق التواصل مع الآخر ومبادئه

محمد علي التسخيري

آفاق التواصل مع الآخر ومبادئه
◄التنوع لطف إلهي له غاياته الكبرى في الخلق. التنوع لابدّ أن يعنى الاعتراف بتنوع الرؤى والمواقف والمذاهب. إن هناك تلازماً تاماً بين المسيرة الحضارية الإنسانية التغييرية وعملية الحوار والإيمان بالقيم المشتركة والمطلقة. الحوار لا يستلزم الاعتراف بالآخر ولا يتطلب أن يعترف الآخر به وإنما يبحث عن مسيرة ومساحة مشتركة. الحوار لا يعني التردد في الموقف بقدر ما يعني الثقة به. الأديان تشكل روح الحضارات حتى ولو حاولت بعض الحضارات التنصل من روحها الدينية وادعاء العلمانية. الدين يُربي في المسلم رؤية إنسانية واسعة تجعله يفكر في الآخرين، فإما هم إخوة في الدين أو نظراء في الخلق. إنّ العالمية هي اتجاه طبيعي يخرج به الإنسان عن دائرته الضيقة إلى المساحة الإنسانية الواسعة.   تمهيد: نتناول فيه نقاطاً ثلاث الأولى: يمكننا القول بأن مفهوم (نحن) ومفهوم (الآخر) يمكن أن يكونا نسبيين على ضوء المحور الذي نستند إليه. فقد يكون هذا المحور هو الذات الشخصية، أو الذات المذهبية في إطار الدين الواحد، أو الذات الدينية، أو الذات المؤمنة بدين سماوي، أو الذات المؤمنة بمطلق قيمي حتى وإن لم تؤمن بدين سماوي؛ وحينئذ يختلف (الآخر) باختلاف محور (الذات)، وتختلف نوعية (العلاقة) بينهما سعة وضيقاً، وتتنوع آفاق التواصل، وبالتالي تختلف الأشكال وآليات التواصل تبعاً لذلك. وما نركّز عليه في هذا الموضوع هو محور الذات الإسلامية فيكون (الآخر) هو ما عدا المسلمين سواء كانوا متدينين بدين سماوي أو مؤمنين بمطلقات قيمية أم لا. وبطبيعة الحال يختلف خطابنا بما فيه استدلالاتنا باختلاف المخاطب، واختلاف القيم المشتركة بيننا وبينه. الثانية: لا يمكننا أن نفصل المسألة الاجتماعية أي (الأسلوب والآليات الخطابية والسلوكية أو فلنقل: نظام التعامل) عن المسألة الفلسفية أي (كيفية تقييم الوجود بما فيه التاريخ والإنسان)، فهما مرتبطتان، بل تشكل المسألة الثانية. ولذا كانت (الأيديولوجيا) مرتبطة تماماً بالسلوك فلا يدّعي الفصل بينهما إلا المغالطون. وقديماً إدعت (الرأسمالية) الفصل بين العقيدة والسلوك الاجتماعي ولكنها في الواقع كانت قد آمنت بالمادية ثمّ وضعت نظريتها الاجتماعية. وعليه: فما لم نحدد الأسس النظرية الفلسفية المشتركة يصعب الالتزام بالمنطقية في مجال تحديد الأساليب وآليات التعامل مع الآخرين. ومن هنا فسوف نركز على الأسس النظرية التي تشكل المشترك فيه مقدمة لتحديد هذه الآليات. الثالثة: قيل الكثير من النظريات الفلسفية التي نظرت إلى الوجود نظرة كلية فرأته يتلخص في (وحدة متكثرة) أو (كثرة متوحدة) ومنها نظرية (الحكمة المتعالية) للمرحوم صدر المتألهين الشيرازي وتتلخص في كون الوجود حقيقة خارجية لا يوجد فيها تباين أو تنوع بل هي ذات واحدة، وحدة متكثرة وكثرة متوحدة قائمة على أساس الإيمان بالوجود المشكك المؤدي إلى تنوع في العلل والمعاليل، والقوى والفعليات، ولكنه لا يعد تنوّعاً في الماهيات وإنما هو تنوع في حد الوجود وقوته وضعفه ودرجاته ومراتبه. ولسنا بصدد تأييد هذه الرؤية أو ردها بقدر ما نحاول التأكيد عليه من أن كل الفلاسفة والعرفاء يدركون حقيقة جامعة وهي هذا الالتحام بين وحدة هذا الوجود المترامي وبين تنوع مظاهره وتجلياته ولكنهم يختلفون في تفسير ذلك، وإذا ما ركزنا على الوجود الإنساني اتضحت لنا هذه الحقيقة بشكل أعمق فنحن من جهة ندرك وجداناً – ودونما شك – وجود مساحة أصيلة تُميز النوع الإنساني عن غيره وتبعاً لذلك تُميز العمل والسلوك الإنساني عن السلوك الحيواني فضلاً عن الحركة النباتية أو الجمادية، كما ندرك وجود تنوع واسع في الألوان واللغات والأجناس والأذواق والثقافات وغير ذلك. ومن هنا، ونتيجة لنظرة موضوعية فاحصة نجد الإسلام بمقتضى انسجامه مع الفطرة والواقع الإنساني أقر أموراً تنطلق من الواقع وتنظم هذه العلاقة أروع تنظيم مما يشكل أروع نظرية إنسانية في العلاقات بين بني البشر وقد سعينا في هذا الموضوع لتبيين بعض الملاحظات أو الأضوية في هذا المجال، مستندين إلى النصوص الإسلامية المتعلقة بهذا الموضوع.   الملاحظة الأولى: التنوع لطف إلهي له غاياته الكبرى في الخلق: وقد حفلت الآيات القرآنية بما يدل على هذه الحقيقة من قبيل: قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 164). وقوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ) (آل عمران/ 190). وقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ...) (الروم/ 22). وقوله تعالى: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا...) (الزخرف/ 32). وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...) (الحجرات/ 13)، إلى غيرها من الآيات الشريفة التي تجعل التنوع سُنة إلهية ونعمة على الموجودات وأهمها الإنسان تُسهل له حياته إلى جانب ما لا يحصى من الظواهر التي تدل على التخطيط الإلهي الحكيم لهذه المسيرة الإنسانية المتكاملة. ولا ريب في أنّ التنوع – كما تشير بعض النصوص – ضروري لتحقيق التعارف السليم ومقدمة للتعاون البناء لتحقيق أهداف الخلقة الإنسانية، كما أنّه ضروري لفسح المجال لانطلاقة العقل نحو الاجتهاد والإبداع والابتكار وتطوير الحياة عبر الاستفادة من قدرة التجريد العقلي والخلاص من أسر الظروف الحسية لتصور الحالة الأفضل وبالتالي التخطيط لتحققها. وهو ضروري للتنافس في الخير لتحقيق الدفع التكاملي المطلوب بما فيه التسخير المتبادل للطاقات والتعاون اللازم. ثمّ إن هذا التنوع لابدّ أن يعني الاعتراف بتنوع الرؤى والمواقف والمذاهب. من هنا لا نجد أي تأكيد على وحدة الأفكار إلا ما يتميز به المسلم من غيره.   الملاحظة الثانية: إنّ الإنسان يطمح – كما قلنا – بفطرته إلى تغيير الواقع إلى الشكل الأمثل وهو يحتاج في كل مراحل التغيير إلى الإيمان بالقيم الثابتة وعلى النحو التالي: أوّلاً: في مرحلة إيمان الإنسان بذاته. ثانياً: في مرحلة العبور إلى خارج الذات. ثالثاً: في مرحلة صياغة الفكر وتكوين الصورة عن الحاضر والمستقبل انطلاقاً نحو التغيير إلى الأفضل. رابعاً: في مرحلة نقل الفكرة إلى الآخرين واستلام أفكارهم. خامساً: في مرحلة السبر والتقسيم والتمحيص والتداول. سادساً: في مرحلة الاستنتاج والاقتناع. سابعاً: في مرحلة التخطيط للتغيير. وأخيراً: في مرحلة تنفيذ التغيير وتحقيقه.   وخلاصة الأمر: إنّ هناك تلازماً تاماً بين المسيرة الحضارية الإنسانية التغييرية وعملية الحوار والإيمان بالقيم المشتركة والمطلقة.   القيم المشتركة مطلقة واقتضائية: إننا وبالتحليل النفسي الوجداني الذي اعتمدناه في مسيرتنا هذه ندرك وجود منظومتين من القيم احداهما مطلقة التأثير لا تحدها حدود أو ظروف معينة، والأخرى هي قيم الحالة الطبيعية أو (قيم الأصل) مما يعني تحولها إلى النقيض أو فقدانها التأثير المطلوب إذا طرأت ظروف أخرى. ومن أمثلة المنظومة الأولى: قيمة العدالة فهي مطلوبة مهما كانت الظروف. وكذلك تقديم الشكر للمنعم المتفضل. ومن أمثلة المنظومة الثانية: حفظ الذات، الكرامة، التعاون، الدفاع عن المستضعفين والسلام والأمن، التغيير إلى الأفضل، الرحمة، الإيثار، الأمانة. فقد يكون الصدق في بعض الأماكن نتيجة ما يؤول إليه من تبعات ظلماً لا عدالة، وكذلك السلام أحياناً بما يؤدي إليه من جرأة على حرمات الإنسانية. فإذا كانت العدالة قيمة مطلقة، فإنّ السلام قيمة نسبية نعمل على تحقيقها إذا عادت وجهاً من وجوه العدالة، ونرفضها ان كانت ظلماً، ولكن التساؤل الأساس هو: ما هي معايير العدالة؟ وكيف نتأكد من تحقيقها. إنّ الأديان السماوية كلها تؤكد على معيارين: الأوّل: معيار تعبدي نستفيد فيه من علم العالم المطلق وهو الله تعالى وهو تعليمات الدين الثابتة، والتي نتأكد من كونها صادرة من الله سبحانه، ذلك إننا نتأكد قبل ذلك من علم الله الشامل، ومن لطفه ورحمته بالإنسان المخلوق ومن عدالته وتمتعه بكل صفات الكمال، فهو لا يريد بالإنسان إلا الخير ولا يخدع الإنسان وانما يكشف له كل الواقع ويريد له كل الخير. الثاني: معيار وجداني يكفي فيه التأمل في الأعماق وقناعاتها، أو فلنعبر بأنّه يكفي فيه الرجوع إلى الفطرة نفسها. وما يساعدنا في اكتشافات العمق الفطري هو كون هذه القناعة – أيّة قناعة كانت – من ملازمات الطبيعة الإنسانية، ولذلك نجدها متوفرةً لدى كل أبناء الإنسان في مختلف ظروفهم وحالاتهم الفردية والاجتماعية وأزمنتهم وأمكنتهم. ولكي نتأكد من هذا المعنى نستطيع أن نطرح هذا السؤال على أي إنسان: هل تعتبر أنّ السلوك الفلاني سلوكاً إنسانياً أم سلوكاً حيوانياً؟ فمثلاً لنركز على (قتل اليتامى والعجزة والمستضعفين للتلهي والتشهي) مثل هذا السلوك يعد سلوكاً وحشياً من قبل أي إنسان بلا ريب والقرآن الكريم أحياناً يعيد الإنسان إلى تأمله الوجداني وقناعته الفطرية حينما يقول: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) (المائدة/ 4)، ويترك أمر تعيين الطيبات له، ويقول: (إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ) (الأعراف/ 33)، ويترك أمر تعيين الفواحش له أيضاً ويعتبر الخروج عن الحالة الإنسانية (فسقاً) وانحرافاً عن الطبيعة (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/ 19).   الملاحظة الثالثة: إنّ التركيبة الوجودية الفطرية تتطلب التواصل الفكري مع الآخرين عبر صياغة الفكرة داخلياً ونقلها عبر الطريقة الرمزية واللغوية إلى الآخرين والتعرف على ما يفكر به الآخرون ليتم التفاعل بين الأفكار وبالتالي تطويرها. ولكن هذا التفاعل يحتاج إلى قواعد يدركها الإنسان بالوجدان إجمالاً وتبلورها وتوضحها إرشادات الوحي أيما توضيح، ونحن نعتقد أنّ الوحي – بالإضافة إلى كشف المجالات المعرفية المجهولة لدى الإنسان في سبيل تسهيل وصوله إلى كماله – يستهدف أن يبرز له كوامنه الفطرية واستعداداته النفسية ويوضح له بجلاء إدراكاته العملية. ومن هنا نجد القرآن الكريم يعرض أمام الإنسان نظريته الحوارية المتكاملة الشاملة لمرحلة ما قبل الحوار ولأهدافه ومواضيعه وأخلاقه وشروطه اللازمة كي يحقق هدفه المنشود دون أن يقع فريسة الجهل والتعصب والنرجسية والاعتداد بالنفس والعناد والخرافات والتقليد الأعمى والتهويش والاستخفاف وأمثال ذلك مما يتعقبه القرآن بكل دقة ويعمل على نفيه، وتنقية الحياة الفكرية منه ليتسنى للإنسان أن يحاور بكل صفاء وموضوعية وبروح حضارية تواقة للكمال.   الملاحظة الرابعة: مما يتردد في بعض الكتابات أنّ الحوار يستلزم الاعتراف بالآخر، أو يعني التردد في الموقف وعدم الوثوق منه، أو يعني وضعه إلى مستوى الفكر الآخر، وربما قيل إن موقف من يطلب الحوار هو موقف الضعيف الذي يطلب أن يعترف به الآخرون. ولكننا نعتقد أن كون الحوار سبيلاً منطقياً انسانياً ينفي عنه كل هذه الأمور؛ فهو لا يستلزم الاعتراف بالآخر ولا يتطلب أن يعترف الآخر به وإنما يبحث عن مسيرة ومساحة مشتركة، أو عن ما إذا كان الآخر ينظر إلى نقاط مبهمة لا يتفهمها ويحتاج الأمر إلى توضيح ما. نعم، من شرط الحوار احترام الآخر وعدم الإساءة إليه أو إثارته ليخرج عن حالته الطبيعية وهذا منهج قرآني أصيل. وهو أيضاً لا يعني التردد في الموقف بقدر ما يعني الثقة به وقد دعي الرسول (ص) ليقول للمشركين (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 24)، وهو أعظم الناس إيماناً. إنّ الواثق لديه أقدر على الدخول في الحوار لأنّه مطمئن من جوهرته الثمينة فلا يخاف عليها من نقد ناقد.   الملاحظة الخامسة: مما يرتبط بعملية الحوار أنّ الهدف العام يجب أن يكون دراسة الجوانب التي يشترك فيها المتحاوران، وإن كان ذلك الاشتراك في الخطوط الجوهرية دون التفاصيل، ثمّ دراسة إمكان التوسع في هذه المساحة عبر سبر أبعاد المسائل والتوصل فيها إلى محاور مشتركة، ثمّ يأتي بعد ذلك التخطيط لتحويل المساحة المشتركة إلى واقع مجسد وهنا يبرز أمران: أوّلهما: إنّ هذا المقصد عام متسع يمكن تطبيقه على كل المتحاورين مهما كانت مواقفهما النظرية والعملية. وها نحن اليوم نعيش دعوة للحوار بين العالم الإسلامي والغرب. ورغم اتساع الهوة بينهما، وقيام الغرب بكل ما من شأنه القضاء على الهوية الإسلامية، فإنّ المجال لا يزال مفتوحاً كما نرى لحوار بين العقلاء من الطرفين يحاول حل القضايا العالقة وتبيين المساحة المشتركة وهذا لا يمنع من العمل الرادع ضد العناصر المتطرفة وإيقافها عند حدها بمختلف الأساليب المناسبة. وثانيهما: إنّ المساحة المشتركة كلما اتسعت، اتسعت معها المسؤوليات المشتركة، وتبع ذلك تعاون أكبر في المسار الحضاري المشترك حتى لو تطلب الأمر تجميد بعض الخلافات لصالح ذلك. وكمثال على ذلك نطرح هنا مسألة الحوار بين الأديان الإبراهيمية والتعاون لصد موجة الإلحاد والعلمانية ورفع مستوى المعنويات وتقوية حركة التوازن الحضاري، لأنّ الأديان تشكل روح الحضارات حتى ولو حاولت بعض الحضارات التنصل من روحها الدينية وادعاء العلمانية.   الملاحظة السادسة: نعتقد أنّ المسؤولية الحضارية مسؤولية مهمة يوليها الإسلام أشد الاهتمام. حيث يربي في المسلم رؤية إنسانية واسعة تجعله يفكر في الآخرين، فإما هم إخوة في الدين أو نظراء في الخلق – كما يعبر الإمام عليّ في نهج البلاغة – وينصر كل مستضعف مهما كان اتجاهه، ويدعم كل حركة عادلة مهما كان لونها، وهو يعتقد ان لكل كبد حرى لأجراً كما يعبر الرسول الأكرم (ص)، بل هو يعشق الطبيعة ويحبها، ولا يؤذي حتى الحيوانات الأليفة إنها إذن خلقية حضارية. وهي كما قلنا تتسع باتساع المساحة المشتركة، فمسؤولية المسلم تجاه المسيرة الإنسانية ورفدها ومحو الظلم منها كبيرة، وتجاه المتدينين أكبر، وتجاه المسلمين أكبر وأكبر، وهكذا حتى يصل الأمر إلى المحلة المشتركة والعائلة المشتركة.   الملاحظة السابعة: إنّ مسألة الدفاع عن حقوق الإنسان تندرج في الملاحظة السالفة ذلك أننا نعتقد أنّ الله أودع في الفطرة الإنسانية ما تدرك به هذه الحقوق، وما به يتم ضمانها للنوع الإنساني وحتى الحقوق المكتسبة من قبيل ما يستحقه المتقون والمحسنون والصالحون والآباء والأقارب من احترام وشكر وضعت في الفطرة منا شيء لانتزاعها وتدركها النفس الإنسانية بـ(العقل العملي) كما يسميه الفلاسفة، أو بالوجدان وهو خصيصة فطرية تتواجد مع الإنسان وتلومه إن انحرف عن الصبغة الطبيعية الإنسانية. ومن هنا نقول: إنّ الإسلام ينطلق في نظريته عن حقوق الإنسان من منشأ واقعي فطري وينسجم في كل تشريعاته مع هذا المنشأ. في حين تعجز النظريات المادية – وهي لا تؤمن بالفطرة – عن إقامة مثل هذا البناء على أسس متينة، بل إننا نعتقد أنّ الحديث عن العدالة والأخلاق والذوق الفني، بل وعن المعرفة الإنسانية لا معنى له إذا أنكرنا الفطرة.   الملاحظة الثامنة: إنّ العالمية هي اتجاه طبيعي يخرج به الإنسان عن دائرته الضيقة إلى المساحة الإنسانية الواسعة ومن كثرته إلى وحدته، ومن همومه المحدودة إلى المسؤولية الكبرى، وبالتالي فهي حركة مباركة. ونحن نشهد اليوم كيف ترابطت المصالح واشتبكت الأمور في مجال البيئة والإعلام والحقوق والعلوم والطاقة وغير ذلك، إلا أنّ المذموم والخطير في الأمر أن هناك حركة شيطانية تحاول الهيمنة ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً لسرقة هذا النتاج الحضاري وتحقيق أهدافها وسحق الآخرين وهو ما نسميه اليوم بالعولمة المجنونة والحمقاء والامركة وما إلى ذلك مما يتطلب أن تتحرك البشرية كلها ضد هذا الاستغلال الحضاري المقيت.   الملاحظة التاسعة: لا ريب في كون الأمان مطلباً إنسانياً فطرياً يستمد جذوره من أهم غريزة وجدت في فطرة الإنسان، وهي غريزة (حب الذات). وهذه الغريزة تعمل مع باقي الغرائز بشكل متناسق لتحقيق سير إنساني متوازن نحو الأهداف التكاملية العليا للإنسان.. فلا يكفي وجود الدوافع الغريزية لتأمين المسير المتوازن وإنما يجب تأمين جو طبيعي للذات الفردية وللذات النوعية كي تدفعها تلك الدوافع نحو أغراضها المنشودة. وتأكيداً من الفطرة نفسها على توفير الجوّ الآمن، نجد العناية الإلهية قد غرست فيها بديهيات الحكمة، والميول نحو العدل، والنفور من الظلم والاعتداء، بل ومنحتها القدرة على تعيين الكثير من مصاديق العدل والظلم، مما يمهد لها السبيل للاتصال بالخالق العظيم وتقديم معاني الولاء له، وحينئذ تنفتح لها آفاق الوحي، وتكتشف بذلك الأطروحة السماوية الرحيمة التي تعطيها المخطط الكامل للمسيرة، وتضمن لها كل ما يوصلها إلى أهدافها. فالأمن إذن حاجة إنسانية دائمة لا تغيّرها الظروف، وليس ظاهرة عرضية حتى يقال، بأنها معلولة لوضع اجتماعي معيّن إذا ما تبدل تبدلت هذه الظاهرة معه. ومن هنا أيضاً يكون من الطبيعي أن نتصور الحاجة إلى نظام شامل يتكفل حماية الأمن الفردي والاجتماعي على مدى مسيرة الإنسان الطويلة. ولا يمكننا أن نتصور حدوداً لمسألة حماية السلام والأمن إلا في إطار مسألة التكامل الإنساني ذاتها، بعد أن ندرك أنّ الفطرة – كما قلنا – هي معيار الحقوق الإنسانية كلها بشكل إجمالي. وأنها هي التي فرضت حماية الأمن الإنساني لتحقيق الهدف الكبير. وحينئذ لن يقبل الأمن تحديداً إلا إذا خرج عن وظيفته الحياتية، وعاد عنصراً ضد الأمن نفسه، فلا معنى إذن لضمانه. وإلا فكيف نتصور الفطرة التي أعلنت الحاجة إلى الأمن وهي تسمح للفرد بالقضاء على أمن نفسه هو، أو من الآخرين، وبالتالي على أمن المسيرة الإنسانية كلها دون أن تحدده بما يردعه عن فعلته، حتى ولو كان ذلك بتهديد أمنه؟►   المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد (23) لسنة 2009م

ارسال التعليق

Top