◄ليس هناك دائرة واحدة، أو مساحة معيّنة، أو مجال محدَّد ينحصر فيه التدبُّر، بل هو مفتوح أو منفتح على الدوائر كلّها، والساحات والمساحات كلّها، والمجالات والآفاق جميعها، ويظلم التدبُّر مَن يُضيِّق سعته، وإذا كنّا هنا سنرصد بعضاً من تلك الآفاق، فلا يعني ذلك أنّنا وقعنا في المحذور، وإنّما هي إشارات على سبيل المثال والتمثيل وليست للحصر.
أوّلاً- التدبُّر في الخلق والخلقة:
إنّ خلقة الإنسان من تراب أو طين تحمل في داخلها أكثر من إشارة غنية أو دلالة إيحائية لا يعيها إلا مّن يمعن النظر في أصل الخلقة.. فأوّل ما يدعو إلى التدبُّر هو المادة الخام المشتركة التي تمّت بها صناعة الإنسان وهي داعية التساوي وعدم التعالي بين البشر، والحديث الذي يقول: "كلّكم من آدم وآدم من تراب" ناظر إلى هذه الحقيقة وهي أنّ البشر من حيث الخلق الأوّل ينتمون إلى التراب وينتسبون إلى الطين، فلا فضل لأبيض على أسود، ولا لحُر على عبد، ولا لملك على مواطن، ولا لرجل على إمرأة، ولا لشعب على شعب طالما أنّ الجميع ينحدون عن المادة الترابية التي شكّلت تركيبتهم الآدمية الأولى.. إنّنا أمام ترابية المنشأ متساوون.
يقول الشاعر المتدبِّر:
إذا كانَ أصلي من ترابٍ فكلّها****بلادي وكلُّ العالمينَ أقاربي
والتدبُّر في مزايا الخلقة البشرية وافتراقاتها عن الخلقة الحيوانية والنباتية والجامدة، لا يدعو للفخر والغرور، كما توهّم إبليس في فجر الخليقة، بقدر ما يستدعي أداء المسؤوليات المترتبة على صاحب الخلقة الأفضل، فإنّما فُضِّلت وكُرِّمت كإنسان على ما عداك من مخلوقات بالعقل والإرادة والإختيار والدين والبيان والعلم والتعلُّم واستقامة القوام، والقدرة على التغيير، لا لأنّك من معدن (نفيس) والكائنات الأخرى من معدن (خسيس)، كما خيّل للشيطان المغرور أو المخدوع بخلقته النارية بأنّ النار أفضل من التراب، ولم يعلم أنّ قياسه باطل لسببين، الأوّل: إنّ خالق النار والتراب واحد، فلم يخلق الإنسان نفسه ولم يختر لأصل خلقته التراب، ولم يخلق الشيطان نفسه، ولم ينتخب لخلقته النار حتى يفاضل بينها وبين الطين. والثاني: إنّ الشيطان نظر إلى (الثابت) ولم ينظر إلى (المتغيِّر) أو القابل للتغيير، فلا دخل لأي مخلوق بشري أو غير بشري في أصل خلقته، وإنّما الفضل كلّ الفضل فيما يدخله على شخصيته أو (ترابه) من محسِّنات (التربية) والبناء والإيمان والطاعة والتديُّن وخدمة الناس وإعمار الأرض بما يمكث فيها من آثار الخير والإحسان والصلاح.
إنّ التدبُّر في الخلق سواء كان بشرياً أو حيوانياً أو نباتياً ليس حالة عبادية يتقرّب بها الإنسان إلى خالقه فقط،وإنّما هي حالة من الوعي لما يراد من كل مخلوق من وظيفة أو مسؤولية في الحياة، ولذلك فأنت حينما تقرأ تدبُّرات الإمام علي(ع) في خلق الجرادة والنملة والطاووس وغيرها، فإنّك تشعر أنّك في مختبر لعالم بيولوجي لا يُشرِّح الجثث وإنّما يدرس في مخبره أو مختبره مزايا وسمات وخصائص كل مخلوق ليكون ذلك بحدّ ذاته داعية للتأمُّل في عظمة الخالق، وتفرُّده في الخالقية التي لا نظير لها، وفي قدرته المنقطعة النظير على أن يجعل من فصائل الحيوان وأسراب الطيور أُمماً تشبه في تحرُّكاتها وعلاقاتها حياة الإنسان الذي يفوقها في الخلق والتكوين ويشاطرها في المَثل والمنهج، وفي ذلك أكثر من دلالة: منها أنّ الخالق هنا وهناك واحد (وفي كل شيء له آية تدلُّ على أنّه واحدُ)، ومنها أنّ في حياة المخلوقات الأدنى دروساً وعِبراً غنيّة للإنسان الكائن الأعلى (اُنظر كتابنا: معلِّمونا الجدد).
غيرّ أنّ التدبُّر الأكبر ليس في مادة الصنع فقط، بل في الغاية أو الهدف من الخلقة.. فالإنسان مخلوق الله الذي خطّط له أن يكون مديراً (بالنيابة) للكون، وأن يصلح الأرض لا بالعمران والزراعة والصناعة فحسب، بل بكلّ ما من شأنه أن يرتقي بترابية التراب وبآدمية الآدمي، وإنسانية الإنسان، وأن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعلم والعمل الصالح، وأنّ الناس مسخّرون بعضهم لخدمة بعض، وأنّ الكائنات الأخرى مسخّرة لخدمة الإنسان، بل حتى الدين معدَّ لخدمته والإرتقاء بحياته وحضارته وعلاقاته، ولذلك كان الإختبار الأكبر هو في التفاضل العلمي والعملي والأخلاقي، وليس في المال والعدد والولد، ولا في الأشكال والألوان والصور، ولا في العناوين والنياشين.
ثانياً- التدبُّر في القرآن المنظور:
نُريد بالقرآن المنظور الكون بكل ملحقاته ومفرداته وتفاصيله، وهو ما عناه القرآن نفسه بالقول: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ﴾ (فصِّلت/ 53). وكلمة (نُريهم) لا تعني أنّنا نعرض لهم فيلماً وثائقياً عن الآيات الكونية، بل إنّ الآيات واضحة وظاهرة وقابلة للتأمُّل والتفكُّر والتدبُّر بحاسة البصر، فما على الإنسان إلا أن يُدقِّق النظر ويمعنه ويرصد أبعادها، وكما انتهى علماء الكيمياء والفيزياء والطبيعة والذرّة والتشريح وطبقات الأرض إلى أنّ وراء الكون العظيم خالقاً عظيماً، فإنّ المتدبِّر في أي ظاهرة كونية -إذا أفرغ عقله من العناد والتعصُّب- لابدّ وأن يذعن للحقيقة ذاتها، فليس لا يمكن للأشياء أن تخلق نفسها بنفسها فقط، بل لا يمكن أن تعمل ضمن مؤسسة هائلة متعددة الوظائف والخدمات بلا تضارب ولا تنافر ولا تصادم، إلا إذا كان المؤسِّس والمدير والمهندس صاحب عقل كلِّي خلاّق لا يخلق عبثاً ولا باطلاً ولا سُدىً.
إنّ مراقبة دقيقة لما تعرضه فضائيات الحيوان والطبيعة تكفي كوجبة دينية أو إيمانية دسمة عن الكثير من القراءات الفلسفية المجرّدة.. ففي كل فيلم قراءة كونية لعجائب وأسرار لا يملك العقل المتحرِّر إلا أن ينحني لها راكعاً.. وعلى ذلك، فإنّ مَن يتخذ من الطبيعة وأسرارها (معبداً) أو (محراباً) أو (مدرسة) يتلقّى فيها دروس عبوديته لله، فإنّه سيغتني بشواهد ودلائل لا تزيد في منسوب (معرفته) فقط، بل ترفع من مستوى (عرفانه) أيضاً.
هذا على صعيد (الآفاق) الكونية الهائلة الرحبة والغنية والمنطوية على أسرار العظمة، فما بالك بالتدبُّر والتفكّر والتأمُّل في (الأنفس) كصعيد ذاتي قريب يقود إلى الإقرار بحقيقة سبق أن قرَّرها الإمام علي(ع):
أتحسبُ أنّكَ جرمٌ صغيرٌ***وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ
فلو أنّ الإنسان تَفكَّر وتَدبَّر وتَأمَّلَ في ذاته وفي بنائه وفي أطواره وفي عقله وجوارحه وعواطفه وما هو مناط به من مهام ومسؤوليات، لما احتاج إلى أن يمدّ عينه إلى الطبيعة الخارجية ليتأكّد أو ليطمئن قلبه أنّ عظمة بهذه الفرادة والضخامة لا تتأتّى لفرق عمل كاملة ومتعاونة وجبّارة، فضلاً عن تهافت القول بأنها وجدت عبثاً أو صدفة، أو أنها أنشأت نفسها بنفسها.
ولو أنّ الإنسان لم يتعب نفسه في دراسة كيانه كلّه بأجهزته كلّها، وإنّما ركَّز دراسته في مرفق واحد من مرافق جسده، أو فقرة واحدة من فقرات نفسه، لخرّ راكعاً وأناب، ناهيك عن النتائج الباهرة للدراسة الكلِّية الشمولية المتدبِّرة.
ثالثاً- التدبُّر في القرآن المسطور:
الدعوة القرآنية: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد/ 24) مفتوحة على الزمن كلّه، وليست دعوة موجَّهة إلى مشركي قريش وكفّارها ومنافقيها فحسب، إنها دعوة مشروطة بفك الأقفال: أقفال الزمن والعناد والتعصُّب واتباع الآباء.. فما لم يُفتح القفل لا يمكن للقلب المقفل أن يرى نور القرآن ويستضيء به، والنداء -كما قلنا- دائم متجدد، فحتى الذين أُوتوا القرآن ولم يتدبّروه مشمولون به، إذ ما قيمة قرآن يُتلى ليلاً ونهاراً والحياة من حوله إمّا واقفة وإمّا تدور بعكس الإتجاه الذي يدور به؟ ما قيمة قرآن غني بالعلوم والمعارف الفذّة والتعاليم الراقية والآداب الحضارية العالية، وأهله في غفلة عنه؟ يقرأونه، ويحفظونه سوراً وألفاظاً، ويختمونه -على الأقل في كل عام مرّة- وهم عن ندائه المطّرد في التدبُّر معرضون؟
وإلى جانب ذلك النداء، يهتف هاتف ربّانيُّ آخر متفرِّع عنه: "ألا لا خيرَ في قراءةٍ ليس فيها تدبُّر، ألا لا خيرَ في عبادة ليس فيها تفقُّه"!
القيمة -كلّ القيمة- في القراءة التدبُّرية، والقيمة -كلّ القيمة- في العبادة التفقُّهية، وإلا ما جدوى قراءة تمرّ عليها النظرات عجلى كما يمرّ القطار السريع على مناظر طبيعية غاية في الروعة والجمال، ولكنه لا يتيح للنظر متعة أن يأخذ قسطه من الإستمتاع المتروِّي بها أو تشرُّب تفاصيلها بدقة، والتنعُّم في مراتعها بتأمُّل.. إنّه شيء أشبه بتلاحق صفحات كتاب يُقلِّبها الهواء لا تغني القارئ من العلم شيئاً!
إنّنا يمكن أن نستعير القول النبويّ في صفة الدين: "إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق". لنصف به القرآن الكريم فهو متين يحتاج الى الإيغال فيه برفق، ولقد جاء في أحد التعاليم الهادية: "آيات القرآن خزائن فكلّما فتحت خزائنه ينبغي لك أن تنظر ما فيها"!
بهذا يأخذ التدبُّر صفة النظر أو إمعان النظر في محتويات الخزينة، فلا تترك خزينة ملأى من غير النظر أو التدبُّر فيها، ذلك أنّ كلمة (خزينة) يعني إختزانها معاني كثيرة، وألطافاً غزيرة، وبركات عديدة. ومن هنا جاءت مقولة إنّ القرآن حمّال أوجه، أو أنّ له ظهراً وبطناً وأنّ لباطنه بطناً، وهذا هو الذي وقفنا عنده في المعنى اللغوي للتدبُّر، وقلنا إنّه النظر في الدُّبر (الظهر) أو الوراء أو الخلف، فوراء كلّ آية كنز لا يعثر عليه أو على بعضها إلا المتدبِّرون.
حينما جاءت إلى الإمام علي(ع) إمرأتان في أوّل عهده بالخلافة، تطلبان منه عطاءهما من بيت المال، وكانتا إمرأة حرّة وأخرى مولاة (عبدة مملوكة) ساوى بينهما في العطاء، فإذا بالحرّة تعترض على مساواتها بالعبدة، فماذا أجابها الإمام العادل المتدبِّر في القرآن؟
أخذ قبضتين من التراب، وسألها: هل لهذا فضل على هذا؟! أي أنّكما كلاكما من تراب ولا ترجيح لتراب على آخر، ثمّ قال لها (وهنا بيت القصيد): "إنِّي نظرتُ في كتاب الله فما رأيت لأولاد إسماعيل من فضل على أولاد إسحاق"!!
قوله(ع): "نظرت"، أي دققت النظر وأمعنته، أي تدبَّرتُ جيِّداً، أي قرأت كتاب الله بعناية وتفحُّص دقيقين، فما وجدت لما تقولين من دليل!!
بهذا اللون من القراءة يستحيل القرآن من كتاب مقروء إلى كتاب عمليّ تطبيقي، أو إلى حجة بالغة تَسكُت دونه أو في حضرته الحجج، وبسبب من هذه القدرة المفحمة كان الذي يختلف مع آخر في الرؤية حول مسألة ما، يسأله: أين هذا في كتاب الله؟! وقد تدهش لما تراه من قدرة القرآن الإستدلالية على قضايا قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن القرآن، أو ليس له بها صلة، وإذا هي في الصميم منه، ولو راجعت كتب الحِجاج والإحتجاج والمناظرة لتبيّن لك صدق وصحّة ما نقول، حتى إنّك تستمع إلى كلمات الإندهاش من قبيل: كأنّي لم أسمع بهذا من قبل، أو كأنّي لم أقرأ هذا في كتاب الله!
إنّه الفرق بين قراءة مُتدبِّرة وأخرى لا تدبُّر فيها.. قراءة تقف عند السطح لا تتعدّاه، وقراءة تنفذ إلى العمق وهي شبيهة بالمصباح الذي يضعه الغوّاص على خوذته وهو يغطس إلى أعماق البحر.. به أو بالإستعانة بنوره يقرأ كتاب البحر من الداخل وعن قرب.
إنّ الذي قرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ (الإنفطار/ 6) وأجاب عن الإستفهام الإستنكاري: كرمك يا ربّ! من أين حصل على هذه الإجابة البليغة؟ لقد استقاها من خلال تدبُّره في الآية ذاتها، أي أنّه يقول لربّه: "ما غرّني بربِّي هو كرمُ ربِّي، غرّني بك -يا ربّ- سترك المرخى عليَّ، غرّني كرمك الذي يجلُّ عن مكافاة المقصِّرين"!!
والتدبُّر في آيات القرآن ومراميه لا يحتاج إلى علم دائماً، فقد يتطلّب إعمال عقل، فعندما طلب ذلك الأعرابي الذي لم يقرأ القرآن من النبي(ص) أن يسمعه شيئاً منه، وتلا النبي(ص) عليه شيئاً من سورة الزلزلة إلى أن وصل إلى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾.. عندها قال الأعرابي: كفى! أي حسبي هذا ويكفيني علماً! فماذا قال النبي(ص) معقِّباً على قوله؟ قال: "لقد ذهب الرجلُ وهو فقيه"! أي مُتدبِّر.. إستمع القرآن بمسامع قلبه لا بآذان رأسه، فعرف أنّ خلاصة الدين أو المسؤولية الدينية تختصر في هاتين الآيتين.
روى (الأصمعي) أنّ أعرابياً سأله في البصرة أن يقرأ له شيئاً من القرآن، فقرأ له من سورة الذاريات حتى بلغ قوله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ إلى قوله سبحانه: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾، فصرخ الأعرابي: يا سبحان الله! مَن ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ليصدقوه بقوله، أو كيف لم يصدقوه حتى ألجأوه إلى اليمين"؟!
فتأمَّل في نظر الأعرابي وتدبُّره في قسم الله الذي يقسم بربوبيّته للسماء والأرض ليؤكِّد لمستمع القرآن أنّ قوله حقّ!!
نقول: هذا هو تدبُّر الأعرابي البسيط المعرفة، فما بالك بأهل العرفان والمعرفة؟!
رابعاً- التدبُّر في عواقب الأُمور:
ربما لم يكن ذلك الشاب الذي جاء يستفتي النبي(ص) في كيفية التصرُّف في شؤون حياته يعلم أنّه سيترك لأمثاله من الشبّان نصيحة لا تُقدَّر بثمن، فلقد سأل النبي(ص) في حُسن الإختيار إذا تعدَّدت الخيارات أمامه، فقال له(ص) كما في الخبر: "إذا هممتَ بشيء فَتَدبَّر عاقبته، فإن كان خيراً فامضه، وإن كان شرّاً فانتهِ"!
إنّ المعيار الذي حدَّده(ص) لهذا الشاب هو التدبُّر في عواقب الأُمور ومعرفة أو قراءة نتائجها سلفاً، فإذا تمكّن من تقدير النتائج المترتِّبة على عمله سلباً أو إيجاباً، أمكنه الإقدام الموافق على العمل وفق رؤية بيانية مدروسة.. وهذا ما تنصح به دراسات التنمية البشرية اليوم من خلال ما تطالب به الإنسان من إحصاء إيجابيات العمل وسلبياته، فإذا رجحت كفّة الإيجابيات في عملٍ ما، فالأخذ به يُمثِّل الحكمة وعين العقل.. وإذا رجحت كفّة السلبيات، فإنّ الترك هو الذي يُمثِّل الحكمة وعين العقل.. وإنّما كانت عاقبة الأمر خيراً أو شرّاً لأنّ النتائج مرهونة بمقدّماتها، فإذا أحسن الشاب التقدير ورصد العواقب والآثار التي تترتّب على خياره أو إختياره، فإنّه سيجنّب بذلك نفسه تبعات الأعمال السيِّئة، ويجني آثار أو ثمار الأعمال الطيِّبة.
وربما ذهب النبي(ص) إلى أبعد من القراءة الدنيوية للنتائج المترتِّبة على العمل، فقد تكون عاقبة عمل دنيوي خيراً في الظاهر لكن عاقبته الأخروية سيِّئة، مما يستدعي الدراسة الشاملة لنتائج وعواقب الأعمال دنيوياً وأخروياً، ولا يخفى أنّ العمل المرضيّ الذي يحبّه الله هو العمل الصالح الذي يُراد به الإخلاص وخدمة المجتمع وصلاح الفرد، ذلك أنّ عاقبة عملٍ خيِّر كهذا خيّرة بالضرورة، لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، ولأن مَن سَنَّ سُنّة حسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة.
إنّ قول القائل: إنِّي أُخيِّر نفسي بين الجنّة والنار عندما عرض له أمران أو عملان عاقبة أحدهما خير وتفضي إلى الجنّة، وعاقبة الآخر شر أو شريرة وتؤدِّي إلى النار، كثيراً ما يجابهنا نحن أيضاً في حياتنا.. فإذا تدبّرنا عاقبة العمل أو المشروع أو الإقتراح أو الدعوة أو العلاقة واطمأنت نفوسنا إلى خيريتها أخذنا بها، وإذا ارتابت نفوسنا من عواقب شريرة أو سيِّئة لعمل ما تركناه ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق/ 2-3).
سُئِلَ الإمام علي(ع) ذات يوم: مَن أثبت الناس رأياً يا أمير المؤمنين؟
قال: "مَن لم يغرّه الناسُ من نفسه، ومَن لم تغرّه الدنيا بتشويقاتها"!!
يغرّه الناس بتضخيم ذاته وإطرائها وتمجيدها والتغنِّي بها، وتغرّه الدنيا بمطامعها وشهواتها ومغرياتها.. أليس هذا من التدبُّر في العواقب؟!
خامساً- التدبُّر في مصائر الناس وعواقبهم:
الآخرون في حياتنا -إيجابيين كانوا أم سلبيين- مُعلِّمون مجّانيون وإن لم يقصدوا تعليمنا بشكل مباشر.. فالإنسان الصالح الذي يعمل صالحاً وتنتهي عاقبته إلى خير نموذجٌ مغرٍ بالتأسِّي والإقتداء، لاسيما إذا كان قريباً منّا، بل كل الذين حسنت عواقبهم في التأريخ يُمثِّلون عيّنات صالحة للإختزان والتمثُّل والإقتداء وإن بعدت بيننا وبينهم المسافات، والعكس صحيح أيضاً.. فالذين ساءت عواقبهم وانتهوا نهايات مزرية هم أيضاً نماذج سلبية تدعونا للتدبُّر في سيرتهم ومسارهم ومصيرهم: كيف بدأوا؟ وكيف تعثّروا؟ وكيف انتهوا؟
إنّ سعيد الحظّ فينا الذي يرى الصلاح فيقتفي أثره.. وتعيس الحظ مَن يجتذبه شيطانُ السُّوء فيتبعه، وإنّما كان العقل بوصلة الإنسان الهادية والمرشدة، لقدرته الفائقة على الفرز والتمييز بين مصير إيجابي وآخر سلبي، وقدرته الأكبر على العمل بما عمل به الصالحون لينتهي إلى ما انتهوا إليه، واجتناب ما عمل به الفاسدون لئلا ينتهي إلى ما انتهوا إليه.
كما أنّ عمليّة التدبُّر في المصائر تربويّة بذاتها، فكم صالح في مستهل حياته لم ينتهِ إلى صلاح في آخر عمره؟ وكم من طالحٍ سنحت له فرصة النجاة فاهتبلها فصلح واستقامت سيرته وحسنت عاقبته؟ والمرء منّا في طريق زلقة لا يدري متى تزلّ قدمه فينحرف عن الطريق، لذلك يُعلِّمنا الله تعالى في الدُّعاء القرآني أن ندعو دائماً: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (آل عمران/ 8)، فالزيغ أو الإنحراف أو الإنزلاق قد يقع بعد الهداية لولا أن تداركنا الرحمة.
سادساً- التدبُّر في تقلُّب الأحوال وعدم ثباتها:
"دوام الحال من المحال" ليست مقولة إعتباطية.. فتلك الأيام يداولها الله بين الناس، فيومٌ لك ويوم عليك، وليس هناك نعيم دائم ولا شقاء دائم، وتلك هي نسبيّة الحياة وتقلُّباتها، فهي منذ أن خلقها الله متقلِّبة بأهلها من حال إلى حال، لا تستقر على شيء حتى تتحوّل عنه، قال الشاعر:
ومكلّفُ الأيام ضدّ طباعِها***متطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ
تلك قصص الأُمم والشعوب والأنظمة والحكومات دونك، اُنظر كيف سادت ثمّ بادت.. فلا الأمويّون بقوا أبد الدهر، ولا العبّاسيون ولا العثمانيون ولا التتار، وبين حين وآخر نسمع في الأخبار سقوط ملك أو خلع رئيس أو إنقلاباً على هذا وذاك، وقديماً قيل: لو دامت لغيرك ما انتقلت إليك!
في عالم الأشخاص والأفراد كذلك، فهذا تاجر غنيٌّ افتقر، وهذا فقير مدقع جاءه الثراء بين عشية وضحاها، وهذا احترقت مخازنه، وذاك غرقت مراكبه، وهذا ابتسم له الحظ فلمع وسطع نجمه.. وهكذا هي الدنيا تشبه دولايب الهواء التي ما يُرى أحدٌ في أعلاها حتى يكون بعد لحظات في أسفلها، أو كما المصاعد الكهربائية اليوم: تارة في صعود وتارة في نزول، ومَن اطمأن إلى ثباتها خُدع او انخدع، إنها (قلقة) (مُتغيِّرة) (مُتقلِّبة)، ولذلك ينصح الذي تفتح له الدنيا أحضانها أن يشكر ولا يبطر، والذي تعرض عنه بوجهها أن لا يقنط ولا يكفر.
إنّ ملك سليمان(ع) عظيم.. عظيم جداً.. لم يؤتَ أحدٌ مثلما أُتي.. ويوم قرر أن يقضي يوماً بلا منغِّصات، طلب أن لا يُدخل عليه أحد حتى يستمتع بملكه ولو ليوم واحد.. وبينما هو في أعلى القصر مستند على عصاه، رأى شخصاً غريباً، فاستغرب دخوله في يوم مُنع فيه الداخلون إلى القصر، فلمّا سأله مَن يكون، عرف أنّه مَلَكُ الموت جاء ليقبض روحه! فقال: "شاء الله أن يكون يوم نعيمي يوم لقائه"!!
وكان أيوب(ع) ذا ثراء عريض، ومال وفير، وأولاد كثر، ونعيم واسع يدور معه حيثما دار.. وإذا به يفقد ذلك تباعاً فيعيش الضنك والمرض والفاقة وفقد الأحبّة.. وحينما وجده الله شاكراً صابراً، أعاد عليه ما استلبه منه وزيادة..
وإنّ (قارون) صاحب الثروة الطائلة الهائلة الذي خسفت به الأرض فابتلعته ولم تستطع أمواله أن تنقذه من قبضتها أو من أخذها، وأصحاب الجنّة (البستان) الذي جاءوا بستانهم مصبحين ليجنوا حصاده الوفير دون أن يراهم فقير، وإذا به قد اكتسحته السيول فأصبح صعيداً زلقاً ولم يبق منه شيء.. كلّ ذلك وغير ذلك في ذاكرة الناس وجعبة التأريخ كثير ينطق بصوت واحد: ألا لا بقاء.. ألا لا بقاء!!
وإنّ تحوّل سواد الشباب إلى بياض المشيب، ونضارة الصحّة إلى إصفرار المرض، واضمحلال القوّة إلى الضعف، والكثرة في الأهل والولد إلى الفقدان والقلّة، وإن تقلُّب المناصب والعناوين والنياشين بأصحابها، والنهايات المروّعة لطائرة تسقط بجميع ركّابها، وسفينة تهوي إلى القاع بكل مسافريها، وعواصف لا توفر أحداً، وسيولاً لا تبقي ولا تذر، وزلازل تهدّ بيوتاً على ساكنيها.. هل ذلك وغيره يترك متعة لمستمتع، أو سروراً لمسرور، أو فرحة لفرِح، أو ثقة لواثق بالدنيا المتقلِّبة بأهلها من حال إلى حال؟!
ليست الدنيا جنّة خلد حتى يركن الإنسان إليها، فلا خلود إلا في الجنّة العلويّة.. فلو بقي الملوك إذاً بقينا، ولو خلد الأنبياء إذاً خلدنا، غير أنّ ذلك لا يعني أن يعتزل الإنسان الحياة بحجّة أنها زائلة متقلِّبة.. فالعاقل مَن يعمل لدنياه كأنّه يعيش أبداً، ومَن يعمل لآخرته كأنّه يموت غداً، ويبقى في جميع أحواله متوثباً لا يدري متى تحين ساعته وتدقّ أجراس الرحيل.
¯ ¯ ¯
- خلاصة واستنتاجات:
1- التدبُّر نشاط عقلي يقود صاحبه إلى الخير دائماً حتى وهو يَتَدبَّر عواقب الشرّ، إنّه كشّاف يضع صور الأشياء بجميع وجوهها أمام الناظر إليها بتمعُّن وتأمُّل ودراسة، فلا ينخدع بالخاطف البرّاق ولا يتوقّف عند حدود السطح، ولا تستميله المظاهر الباهرة، ولا تنطلي عليه الشعارات الرنّانة.
2- التدبُّر يُنزل على النفس السكينة، لأنّه يوازن أو يزن الأشياء.. فلا إنسياق ولا إنجرار ولا تهوُّر، بل تحسُّب وتحفُّظ وعناية ورعاية، وقراءة لما بين السطور وما خلف السطور.. ورؤية لوجهي العملة.. إنّه قاربُ نجاة.
3- التدبُّر ليس قرآنياً فقط، هو كلٌّ شامل.. لكل ما في الحياة ومَن في الحياة، للجمالات وللقبائح، للخسائر والأرباح، للهزائم والإنتصارات.. ففي كلٍّ درس وفي كلٍّ عظة وتجربة.
4- لا يقف التدبُّر عند حدّ وليس له عمر معيّن.. إنّنا ننتفع بتدبُّر مَن سبقنا، لكننا ينبغي أن نعيش التدبُّر بأنفسنا تجربة حيّة.. أن نعيد قراءة الأشياء قراءة ثانية وثالثة ورابعة.. فقد تكون القراءة الثالثة هي الصائبة أو القريبة من الصواب.
5- التدبُّر بمحاسنه كلّها يقترب من أن يكون عبادة، بل لعلّه من أرقى العبادات، وكيف لا يكون كذلك وهو الآخذ بيد الإنسان إلى شواطئ السلامة، ومواطن الخيرة، وفضاءات الإبداع، وآفاق الأنس والمعرفة.
6- المزيد من التدبُّر يعني المزيد من التعقُّل، المزيد من ثبوت الأقدام في المنزلقات، المزيد من الوعي والبصيرة، المزيد من سلامة المواقف، المزيد من الإيمان الحقيقي والتديُّن الصحيح!►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق