• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

آداب القرآن المعنوية

مركز نون للتأليف والترجمة

آداب القرآن المعنوية
     على القارئ مع نهاية هذا البحث أن:

1-    يتعرّف إلى الهدف الأساسي من تلاوة القرآن.

2-    يبيّن أن تنوّر القلب بالقرآن لا يحصل إلّا بالتأدب بآدابه المعنوية.

3-    يتعرّف إلى بعض آداب القرآن المعنوية والباطنية.

 

القراءة الواعية والهادفة للقرآن الكريم:

إنّ جميع أعمال النبيّ وآله وتضحياتهم التي لا تقدّر، إنما كانت بشكل رئيسي وأساسي لأجل تحكيم أسس القرآن في المجتمع، وجعله الكتاب الهادي للبشرية جمعاء. فكلّ تحركاتهم كانت من أجل أن يصبح القرآن المصدر الأوحد للتشريع والفكر والروحانية والكمال. وإنّ عنوان الدخول إلى ساحة القرآن المقدسة، والوسيلة الوحيدة للسير في آياته هي القراءة. وإذا اجتمعت القراءة مع تلك التوجّهات القلبية النابعة من المعرفة بمقامه العظيم، حصل المطلوب من نزول هذا الكتاب المقدّس. حيث إنّ المبتغى من خلال قراءة القرآن هو ارتسام صورته في القلب وتأثير الأوامر والنواهي فيه، وتثبيت الأحكام والتعاليم الإلهية، ولا يتحقّق هذا إلّا في ظل مراعاة آداب القراءة. والمقصود من آداب القراءة القراءة الواعية الهادفة، القراءة التي يبحث فيها الإنسان على المعاني المقصودة والهدف من ورائها، القراءة التي لا يقتصر فيها على ظاهر المعاني بل يغوص في أعماقها محاولاً البحث عن حقائقها المعنوية وأسرارها الباطنية للتأدّب بها والاستنان بسنّتها.

 

آداب القراءة الواعية والهادفة للقرآن:

من أهمّ هذه الآداب المعنويّة للتمسُّك بالقرآن الكريم:

1-    التعظيم:

التعظيم أدبٌ يمارسه العقلاء بالوجدان، وهو ينشأ من خلال إدراك عظمة شيء أو شخص، حيث يظهر في حركات أعضائهم وأقوالهم وأفعالهم. إنّه أمرٌ وجدانيٌّ فطريٌّ مغروزٌ في طبيعة البشر. وإدراك عظمة الشيء يقتضي وجود مبادئ ومعانٍ للعظمة في النفس والذهن. فعظمة كلّ شيءٍ في الحقيقة ترجع إلى كماله، وإلى مرتبته الوجودية. ولأنّ القرآن هو مظهر أسماء الله وصفاته، وأسماء الحقّ وصفاته ليس لها حدّ وبالتالي فالقرآن الكريم هو مظهر الكمال الذي ليس له حدّ أيضاً، لذا نحن البشر عاجزون عن الإحاطة به، وغاية ما ندركه فيه هو أنّنا لن ندركه أو نحيط بعظمته. فهذا أكبر تعظيم قلبي. فإنّ الله تبارك وتعالى لسعة رحمته بعباده أنزل هذا الكتاب الشريف من مقام قربه وقدسه، وتنزّل به على حسب تناسب العوالم حتى وصل إلى هذا العالم الظلمانيّ وسجن الطبيعة وصار على كسوة الألفاظ وصورة الحروف، لتخليص المسجونين في سجن الدنيا المظلم، وخلاص المغلولين بأغلال الآمال والأماني، وإيصالهم من حضيض النفس والضعف والحيوانية إلى أوج الكمال والقوّة والإنسانية، ومن مجاورة الشيطان إلى مرافقة الملكوتيين، بل الوصول إلى مقاصد أهل الله ومطالبهم.

لقد حوى هذا الكتاب الحكيم جميع مراتب العظمة الممكنة في أيّ كتاب. فمُنزله وكاتبه على الحقيقة هو الله سبحانه، جامع كلّ صفات الجمال والجلال على الإطلاق الذي عجزت العقول عن إدراك كُنه عظمته. فلا يمكن الإشارة إليه بعينٍ أو اسمٍ أو رسمٍ لأنّه أكبر من أن يوصف. عن الإمام الصادق (ع) قال: "لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنهم لا يبصرون". وحامله هو جبرئيل أمين الوحي وسيّد الملائكة، وهو الذي عند ذي العرش مكين. أمّا راشحه ومبيّنه فهو الرسول الأعظم صاحب المقام الأكرم أعظم خلق الله وأفضل أنبيائه ورسله، وخلفاؤه العظام أصحاب السرّ المكنون والمقام المصون الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. أمّا وقت تنزيله فهو ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر.

2-    رفع الموانع وإزالة الحجب:

إذا علمنا أنّ التمسُّك بالقرآن تكليفٌ أساسيٌّ يعطي جميع الأعمال قيمتها وهويّتها الإلهية، وأردنا البدء بأداء هذا التكليف، سنجد أحياناً أنّ بيننا وبينه حجاباً غليظاً ومانعاً نفسياً كبيراً يسدّ علينا طريق الإقبال عليه أو تحصيل الفوائد الموعودة منه. فهذا الكتاب الإلهي وعدُ الله بالرحمة المطلقة والهداية الشاملة لكلّ مَن تمسّك به: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة/ 15-16)، ومع ذلك فغالباً ما لا نلحظ هذه الآثار التي وعدنا الله بها في أنفسنا إذا قرأنا القرآن. والسبب هو وجود مجموعة من الموانع والعوائق التي تحول دون تحقق هذه الاستفادة ولابدّ من رفع هذه الموانع وإزالتها.. فاللازم على المتعلّم والمستفيد من كتاب الله أن يجري أدباً آخر من الآداب المهمّة، حتى تحصل الاستفادة، وهو رفع موانع الاستفادة. ونحن نعبّر عنها بالحجب بين المستفيد والقرآن.

وأهم هذه الموانع:

أ‌)       حجاب رؤية النفس مستغنية:

حيث يرى المتعلّم نفسه بسبب هذا الحجاب مستغنياً أو غير محتاجٍ إلى الاستفادة من كتاب الله. حيث يزيّن الشيطان للإنسان دائماً الكمالات الموهومة ويقنعه بها، فيحرمه من فهم الكتاب الإلهي النوراني والاستفادة منه.

ب‌) حجاب الآراء الفاسدة والمذاهب الباطلة:

منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا، والتحريفات المتعمّدة تنصبّ على كتاب الله. ويعرض كلّ تيارٍ بضاعته الكاسدة في أسواق المسلمين لتتبعه فرقة وتحيد عنه أخرى. فالقرآن كان ولا يزال أقدس المقدّسات عند المسلمين. ولهذا وجد المنحرفون فيه فرصة لتحقيق مآربهم من خلال تفسير بعض آياته وتوجيهها بما يحلو لهم.

ت‌) حجاب شبهة التفسير بالرأي:

من الحجب المانعة من الاستفادة من هذه الصحيفة النورانية الاعتقاد بأنّه ليس لأحدٍ حقّ الاستفادة من القرآن الكريم إلّا ما يكتبه المفسّرون أو يفهمونه. وقد اشتبه على الناس التفكّر والتدبُّر بالتفسير بالرأي الذي جاء المنع عنه في الحديث عن رسول الله (ص): "مَن قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار". وبواسطة هذا الرأي الفاسد والعقيدة الباطلة جعلوا القرآن عارياً من جميع أوجه الاستفادة واتّخذوه مهجوراً بالكليّة. في حين أنّ الاستفادات الأخلاقية والإيمانية لا ربط لها بالتفسير، فكيف بالتفسير بالرأي؟ فمثلاً، إذا استفاد أحدنا من قوله تعالى في قصة موسى والخضر (ع): (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) (الكهف/ 66)، التواضع للأستاذ والمربّي، وضرورة جعل التعلّم لأجل الوعي والنباهة، لا يكون قد فسّر القرآن، أو فسّره برأيه. فلا ربط لهذا بالتفسير حتى يسمّى بالتفسير بالرأي.

ث‌) حجاب الذنوب والمعاصي:

إنّ القلب هو محلّ انعكاس أنوار القرآن. فإذا كان المحلّ متكدّراً بظلمة الذنوب ومحجوباً بحجاب المعاصي، فلن يرى من القرآن سوى الألفاظ والحروف، بل قد يؤدّي ذلك إلى عدم رؤية القرآن كلّيّاً.

ج‌)   التعلّق بالدنيا يصرف القلب عن القرآن ويجعل تمام همّه الإنسان في الدنيا، فيغفل عن ذكر الله. وكلّما ازداد التعلّق بالدنيا وشؤونها ازداد حجاب القلب ضخامةً، فينسى صاحبه كلّ خيرٍ حقيقيّ وجمالٍ معنويّ ولا يرى الكمال إلّا في الدنيا والمادّة. ولأنّ القرآن دعوةٌ إلى الآخرة والكمالات المعنوية، فإنّ الطالب للدنيا قد يراه مخالفاً لمشتهياته ورغباته وسدّاً أمام تحقيق مآربه فتنفر النفس منه ويعرض عنه. وهذه هي عاقبة الإقبال على الدنيا وزينتها.

 

    المصدر: كتاب دروس في التربية الأخلاقية

ارسال التعليق

Top