• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كم من الماء ينبغي أن نشرب؟

كم من الماء ينبغي أن نشرب؟

لاشكّ في أنّ الماء المشروب الوحيد الذي لا غنى عنه، حيث يمكن التخلِّي عن القهوة، والشاي، والحليب، والعصائر، والمشروبات الغازية أو أي مشروب آخر، إنّما ليس عن الماء. وهذا ما لا يختلف عليه اثنان. لكن، ثَمَّة خلاف في شأن كمية الماء الضرورية اللازم شربها.

- لماذا توفي 70 ألف مسن؟

في السنوات الأخيرة، كَثُرت الإعلانات التي تدعو إلى الإكثار من شرب الماء، على غرار "اشربي 8 كؤوس من الماء يومياً، لكي تحافظي على نضارة بشرتك"، أو "اشرب ليترين اثنين من الماء من ماركة كذا، لكي تزيل السموم من جسدك وتنعم بأتم عافية"، وما إلى ذلك. وهكذا، انْبَرى العديد من علماء وأطباء وممثلي جمعيات حماية المستهلكين لكي يُفنِّدوا بعض تلك التوجهات، التي اتّخذت طابع الموضة منذ ثمانينات القرن الماضي، بعد أن بات مألوفاً رؤية أشخاص، لاسيّما من بين النساء، يحملون معهم قنينة من الماء في حِلّهم وترحالهم، يرغمون أنفسهم على أخذ عدد مُعيّن من رشفات ماء، كلّ ساعة أو نصف ساعة، على سبيل المثال.

في الواقع، "لا يَنفع شرب الماء أكثر من الحاجة سوى في جعل لون الإدرار فاتحاً أكثر"، بحسب رأي الأكاديمي الفرنسي أريك أورسينا، مؤلف كتاب "مستقبل الماء"، وهو استنتاج نقله عن أطباء وعلماء ومتخصّصين، من مختلف أنحاء العالم، ضَليعين في شؤون الماء، ومفعوله الصحّي. بحسب هؤلاء، فإنّ القاعدة الأساسية، التي ينبغي الالتزام بها، من دون غيرها، تَنصبُّ على القول: "اشرب الماء عندما تعطش، لا أكثر ولا أقل".

لكن، ثَمّة استثناء، يخصُّ المسنين: فمع التقدّم في السن، يضمحل الإحساس بالعطش، إلى أن يتلاشى تقريباً تماماً. فمثلاً، في بعض أسابيع صيف 2003، التي كانت قائظة بشكل غير معهود في أوروبا، مات زهاء 70 ألف مُسن ومُسنَّة، من بينهم نحو 15 ألفاً في فرنسا وحدها. والسبب: عدم شعور المسنين بالعطش، وعدم اعتيادهم على الحَرّ هناك، مثلما هي الحال في بلداننا، ما أدّى إلى إصابتهم بحالات قصور مائي (جفاف) قاتلة، فَتَكت بعشرات الآلاف منهم. لذا، يجب أن يُرغم المسنّون أنفسهم على شرب الماء، حتى إن لم يشعروا بالعطش. أمّا الآخرون، فليس ضرورياً أن يضعوا خطّة دقيقة لشرب الماء، والتمسك بها ساعة بساعة، وقطرة بقطرة.

- شائعات:

لابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ جسم الإنسان، وتحديداً الكليتين ومنظومة موازنة الحرارة، يَتكفّل تلقائياً بالإشراف على مُجمَل عمليات لفظ السموم عبر التبوُّل، وله القدرة على تكييف تلك الأفعال الحيوية حسب الجوّ والمحيط والغذاء ودرجة الحرارة، وطبعاً كمية الماء الإجمالية المشروبة، وأيضاً المأكولة (من خلال الأغذية الغنية بالماء). بالتالي، ما من ضرورة حيوية لتحديد حدود دنيا، أو قسوى، لشرب الماء، والإصرار على عدم تَخطّيها، إنّما ينبغي الشرب عند الإحساس بالعطش، وهو إشارة يبثها الجسد عندما يُوشك توازن النظام على الانهيار.

وقد أثبتت دراسة أجراها باحثون من "جامعة بنسلفانية"، في الولايات المتحدة الأميركية مُؤخّراً، أنّ أي كمية زائدة من الماء على حاجة الجسد لا تنفع في شيء، وأنّ الجسم يلفظ السموم في الأحوال كلّها، وبالفاعلية نفسها، حتى عند شرب كمية أقل من الماء. وهذا ما يُعزّز الاعتقاد السائد بأنّ بعض الشائعات، وتحديداً تلك التي تَحضُّ على الإكثار من شرب الماء، تُشكِّل فعلاً تجلّيات لسياسات تسويقية تَخطتها، على صعيد العالم، بعض كبريات شركات إنتاج الماء وتعبئته وتسويقه، أو توزيعه. وأنّ الهدف منها زيادة الاستهلاك بهدف رفع أرباحها ليس أكثر.

- معطيات موضوعية:

لكن الأمر ليس في تلك البساطة. وثَمّة مؤشرات وعناصر ومعطيات موضوعية تعين على تحديد كمية الماء الضرورية للأفعال الحيوية، ويمكن الأخذ بها لتنظيم العادات المائية اليومية. من تلك العوامل:

- حاجات متباينة:

الحاجة إلى الماء تختلف من شخص إلى آخر، ومن ظرف إلى آخر، زماناً ومكاناً. فمن الطبيعي، والمنطقي، أن يحتاج الجسد إلى ماء أكثر في البلدان الحارة (التي من المفارقات أن معظمها يفتقر إلى موارد مائية كافية). فالتبخُّر والتعرُّق، عاملان يُعجِّلان فقدان الماء من الجسم، بالتالي يمليان ضرورة إعادة ترطيبه بكميات ماء إضافية تفادياً لقصور مائي خطير.

- ملليليتر لكلّ سعرة:

ثبت من خلال دراسات علمية دقيقة، أنّ الجسد يحتاج إلى ملليليتر (سنتيمتر مكعب واحد، أو واحد "سي. سي") من الماء لكلّ سعرة حرارية مصروفة، في مناخ معتدل. بعبارة أخرى (وهذه معدلات عامة)، تحتاج المرأة إلى ليترين من الماء يومياً، على أساس إنفاقها 2000 سعرة في اليوم، كمعدل. أمّا الرجل، بما أنّه ينفق 2500 سعرة، فعليه بليترين ونصف الليتر من الماء. لكن ذلك لا يعني شرب تلك الكمية كلّها، بما أنّه "يأكل" الماء أيضاً.

كما ينبغي التحذير من أنّ ذلك الحساب قائم على أساس بلدان معتدلة المناخ، وكمعدل عام، أمّا في بلداننا، الأكثر حرارة طوال أشهر عديدة، فمن المنطقي الظنّ أنّ كمية الماء اللازمة تتجاوز معدل نسبة ملليليتر واحد للسعرة الحرارية، لاسيّما صيفاً. لكنّنا نفتقر إلى دراسات علمية دقيقة في هذا الشأن. في الأحوال كلّها، تظل قاعدة "اشرب عندما تعطش"، المشار إليها آنفاً، قابلة للتطبيق في كلّ زمان ومكان. إلى ذلك، فمن غير العملي أن يقوم كلّ فرد بإجراء حساب دقيق لِمَا يصرفه من طاقة، من أجل حساب مضبوط لما ينبغي أن يشربه، لحدٍّ القطرة، لا زيادة ولا نقصاناً.

- معدلات عامّة:

ليس ما تَقدّم سوى مُعدّلات عامّة. فمن غير المعقول أن يحرق موظف مُدلّل، يعمل في مكتب مكيّف، الطاقة نفسها التي يحرقها بَنَّاء، أو حمّال بضائع، أو قالع أحجار، أو حدّاد على سبيل المثال. وذلك أنّ الواحد من هؤلاء يعمل تحت أشعة الشمس الحارقة، ما يعني أنّه يصرف طاقة أكثر، أي سعرات أكثر، وفضلاً عن ذلك يتعرق أكثر، بالتالي يحتاج إلى كمية ماء أكبر.

- الماء "يُؤكل" أيضاً:

كلّنا نعرف أنّ الماء يُشرَب، لكن كثيرين منّا يَجهلون أنّه "يُؤكَل" أيضاً. فعَدَا عن السكر والشحوم والزيوت، تضمّ الأغذية كلّها نسباً معيّنة من الماء. مثلاً: تحتوي الخضار والفواكه على زهاء 90 في المئة من وزنها من الماء. هكذا، عندما يتناول أحد منّا 300 غرام من الفواكه يومياً، و400 غرام من الخضار، فإنّه يحصل على 700 ملليليتر ماء (سبعة أعشار الليتر). وإذا كانت تلك الخضار مُحضّرة في حساء، فخير على خير: إذ تزيد كمية الماء. كما يوجد الماء في الحليب ومشتقاته كلّها (بنسب تتراوح بين 50 و85 في المئة)، وفي اللحوم والأسماك (60 إلى 80 في المئة)، والأرز المطبوخ والمعكرونة المطبوخة (اللذين يمتصان الماء المطهوين فيه).. إلخ.

فإن أضفنا تلك المأكولات إلى الخضار والفواكه المستهلكة يومياً، نجد أنّ مجموع مَن يُسمّى "الماء الافتراضي" المستهلَك يوازي في اليوم الواحد ليتراً ونصف الليتر، طبعاً عَدَا عن الماء المشروب مباشرة. هكذا، في حالة رجل نموذجي، أي ينفق يومياً 2500 سعرة، فإنّه لا يعود في حاجة إلى شرب أكثر من ليتر واحد، بما أنّ الماء المأكول يؤمِّن له 1.5 ليتر، وبما أنّه يحتاج إلى ما مجموعه 2.5 ليتر (أي 2500 ملليليتر، ما يوازي ملليليتراً واحداً، أو سنتيمتراً مكعباً واحداً، لكلّ سعرة، مثلما ذكرنا).

- المشروبات الأخرى:

ما تَقدَّم كله، لا يأخذ في عين الاعتبار الشاي والقهوة. فالعديد منّا لا يستغني عن جرعته اليومية من أحد المشروبين، المؤلفين من الماء بنسبة تصل إلى 99 في المئة. أضف إلى ذلك، ما يتناوله كثيرون من مشروبات "ناعمة"، (بالإنجليزية Soft Drinks)، التي هي بالأحرى "خشنة" على المعدة أكثر من كونها ناعمة كما يُقال. نعني بذلك تلك المشروبات الغازية على شاكلة الـ"كولا"، والمشروبات الأخرى المشابهة، لكن الخالية من مادّة الكافيين منها، التي تفاقم الضرر. فصحيح أنّ تلك المشروبات تضمّ ماء بنسبة عالية. لكنّها، حتى تلك الخالية من الكافيين، تضم أيضاً سموماً كثيرة، وسكراً كثيراً، وحموضة عالية، تجعل الهضم عسيراً، وتؤدّي إلى تَردّي الأسنان ومُجمَل الجهاز الهضمي. لا بل، أثبتت دراسات حديثة، أنّ فقدان الذاكرة من تداعياتها غير المتوقعة. في أي حال، الماء الموجود في تلك المشروبات، بالنسبة إلى المُبتلين بشربها، ينبغي أيضاً أخذه في عين الاعتبار في حساب الكمية اليومية الإجمالية.

وعلى ذكر مادّة الكافيين، المضرّة (لاسيّما للدماغ والجهاز العصبي)، ينبغي القول إنّها أيضاً تُعجّل الرغبة في التبول، بعبارة أخرى، هي مُدرّة للبول، ما قد يؤدي إلى حلقة مُفرَغة من عطش، فشرب، فتبول، ثمّ عطش من جديد، وهكذا دواليك. وفي حال إغفال مرحلة الشرب، لتجديد ترطيب الجسم، يُصاب هذا بحالة جفاف سيِّئة النتائج.

- لا للماء البارد:

ونضيف نصيحة أخيرة، مفادها أنّ شرب الماء بارداً غير مُحبَّذ بتاتاً، لاسيّما مع الأكل. فدرجة حرارة الجسم الطبيعية هي 37.5 مئوية. إذن، دخول مادّة بدرجة أكثر من صفر بقليل، ما يعني فارقاً من نحو 35 درجة، لابدّ أن يؤدي إلى إخلال غير صحّي بالنظام الحراري. إلى ذلك، أثناء الأكل أو بعيده، تؤدّي تلك البرودة المباغتة، الدخيلة على الجسم، إلى تجميد الزيوت والمواد الشحمية، ما يفضي إلى عسر الهضم. لذلك، جرّب التخلي عن شرب الماء بارداً، واستعض عنه بماء في درجة حرارة المحيط، وستلاحظ الفرق.

 

* محمّد عبود السعدي

ارسال التعليق

Top