ويا تُرى بم يصلح القلب، وبم يفسد؟ إنّه يصلح ويقوى ويشرق بطاعة الله تعالى، وعبادته، ومحبته والإنابة إليه وكثرة ذكره، ومحبة ما يحب، وبغض ما يبغض. ويفسد، ويضعف، ويظلم بالمعاصي والذنوب، فالمعاصي والذنوب – كما يقول ابن القيِّم (رحمه الله) –: "تصرف القلب عن صحته، واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه، فإنّ تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، بل الذنوب أمراض القلوب وداؤها، ولا دواء لها إلّا تركها، وقد أجمع السائرون إلى الله أنّ القلوب لا تُعطى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة، ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها فيصير نفس دوائها، ولا يصح لها ذلك إلّا بمخالفة هواها فهواها مرضها، وشفاها مخالفته"[2]. ولا شك أنّ لذلك أثره على البدن، فما وهنت الأبدان إلّا بوهن قلوب أصحابها، أما كيف يكون صلاح القلب وقوته سبباً في صلاح البدن وقوته، فذلك علم يعرفه الحكماء في طب القلوب وعلاجها، كما يعرفه الأطباء في معالجة الأبدان. وما انشرحت القلوب واستأنست واستنارت بمثل ذكر الله تعالى وطاعته، ومحبته، وعبادته.
وتأتي الصلاة ميداناً يتقوى فيه وبه القلب، ويتخلص من أدران الشهوة، وعلائق المادة، فيصفو ويستنير بمناجاته لله رب العالمين، ويقوى ويستعلي على كلِّ خوف ورهبة وخشية لغير الله تعالى، فلا يخاف إلّا من الله سبحانه، ولا يرهب إلّا له، ولا يخشى إلّا إياه، ومن شأن البدن الذي يكون فيه مثل هذا القلب أن تسري في أجزائه القوة والعافية.
روي أنّ أبا الطيب الطبري كان قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بعقله وقوته فوثب يوماً من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة فعوتب على ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر[3]، وهذا فهم سديد رشيد لأثر الطاعة في حفظ القلب والعقل والبدن وسائر الجوارح، بل وأثرها في حفظ المرء في نفسه وأهله وماله وشأنه كله مصداقاً لقول النبيّ (ص): "احْفَظ الله يَحْفَظْكَ" وهو جزء من حديث رسول الله (ص) في وصيته لابن عباس (رحمه الله)، أخرجه الإمام أحمد والترمذي بنحوه مختصراً وقال: حديث حسن صحيح[4].►
* أستاذ التفسير بجامعة أم القرى
المصدر: كتاب تأملات في فضل الصلاة ومكانتها في القرآن والسنّة
[1]- رواه البخاري في صحيحه – 1/28، برقم 52. ومسلم في صحيحه – 3/1219، برقم 1599.
[2]- الجواب الكافي ص82.
[3]- جامع العلوم والحكم، لابن رجب، تحقيق شعيب الأرناؤط، وإبراهيم باجس – 1/466.
[4]- انظر: مسند الإمام أحمد – 1/293. وسنن الترمذي – 4/667، برقم 2516.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق