◄توجد في الشريعة أشياء أمر الله سبحانه وتعالى بها، وشرط على المكلف أن يأتي بها من أجله سبحانه وتعالى بنيّة القُربة وتُسمّى "العبادات"، ولا تكون صحيحة إلّا مع تلك النيّة، وخلافاً لها توجد أُمور لم يشترك فيها المشرع أن يؤتى بها بنيّة القربة، فيكون المكلف بالخيار إن شاء أتى بها من أجله سبحانه وإن شاء أتى بها بدافع من دوافعه الخاصة، وهي تقع صحيحة في الحالتين وتُسمّى هذه الأُمور "الأفعال التواصلية"، أي أنّ المقصود بها شرعاً مجرد التوصل إلى فوائدها بدون اشتراط نيّة مخصوصة في أدائها.
العبادات في الشريعة منها: الطهارة (الوضوء، الغسل، والتيمم)، الصلاة (الأذان، الإقامة، والصلاة نفسها)، الصيام، الإعتكاف، الحج، العمرة، الطواف، الزكاة، الخمس، والكفارات.. وأمّا التوصليات، فمنها: تطهير البدن والملابس من النجاسة والإنفاق على الزوجة والأقارب وصلة الرحم ووفاء الدين ونصح المستشير وغير ذلك.
وللعبادات دور مهم في الشريعة الإسلامية، وأحكامها تمثل جزءاً مهماً في الشريعة لما لها من دور تربوي في حياة الإنسان ومغزى عقائدي مقصود.. وأمّا الأوّل، فهو يُمثِّل حركة تكاملية للتقرب إلى الله تعالى والوصول إليه والتشرُّف بلقائه، والثاني يمثل البُعد الرسالي كون هذه الرسالة من الله تعالى ونزلت بيد الأنبياء وليست من صنع نفس الإنسان العاجز الفقير، وكلا هذين الأمرين يمثلان ركنين مهمّين لأجل الوصول إلى التوحيد، لذا صار من المهم بيان مفهوم العبادة وعلاقة النيّة بها، وما معنى القربة إليه تعالى.
- مفهوم العبادة:
فَسَّرَ أهل اللغة مفهوم العبادة بالخضوع والتذلل وما شابههما.. منها ما ذكره الراغب الأصفهاني: "العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلل ولا يستحقها إلّا مَنْ له غاية الإفضال وهو الله تعالى، ولهذا قال: (ألَّا تَعبُدُوا إلّا إيّاهُ) (يوسف/ 40، الإسراء/ 23)".
والتعريف اللغوي يعطي معنىً عاماً، إذ مجرد الخضوع ليس لوحده عبادة، لأنّ العبادة فيها خصوصية ترتكز عليها إضافة إلى الخضوع، وهو أمر قائم بالضمير والقلب، وهو الأساس لأن تكون الأفعال عبادة، وهو الاعتقاد بأنّ المخضوع له هو المعبود، أي إنّ الخضوع لابدّ أن يكون مسبوقاً بذلك الاعتقاد الخاص لأنّ الخضوع عمل قائم بالجوارح كالرأس واليد وغيرها، فالإنسان يخضع بجلّ جوارحه أو بشيء منها أمام المعبود.. لقد بلغ خضوع الصحابة للنبي (ص) بمكان أنهم كانوا يتبرّكون بفضل وضوئه وشعر رأسه والغناء الذي يشرب منه والمنبر الذي يجلس عليه، ومن الواضح أنّ هذا النوع من التبرك غاية الخضوع منهم للنبي (ص) ومع ذلك لم يبلغ حدّ العبادة، ولم يصفهم أحد بأنهم كانوا يؤلهون النبي (ص) أو يعبدونه، وعلى هذا فالعبادة هي الخضوع النابع عن الاعتقاد بأنّ المعبود هو الخالق والمدبر، وكون أزمّة الأمور ومصير الإنسان في الدنيا والآخرة بيده، وورد في تفسير الميزان: "إنّ العبادة هي نصيب العبد نفسه في مقام العبودية، وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك، فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى أو عبدية العبد كالسجود والركوع.. وكلّما زادت الصلاحية المزبورة ازدادت العبادة تعيّناً للعبودية"، إذن حقيقة العبادة تتقوم بأمرين:
1- العقيدة الخاصة التي تدفعه إلى العبادة فيكون الخاضع متخذاً المعبود من كونه رباً إلهاً أو خالقاً بيده مصير الإنسان.
2- الأمر الثاني يرجع إلى جوارح الإنسان المشعرة بالتعظيم والخضوع أي الفعل أو القول الذي يُظهر ذلك الخضوع والتذلل، أي الخضوع لوامر ونواهي الشارع المقدس لأنّ الإنسان بعد أن آمن بالله تعالى والإسلام والشريعة، عرف أنه مسؤول، بحكم كونه عبداً لله تعالى عن امتثال أحكامه، يصبح ملزماً بالتوفيق بين سلوكه في مختلف مجالات الحياة والشريعة الإسلامية، وأيضاً أنّ نظام العبادات طريقة في تنظيم المظهر العملي لعلاقة الإنسان بربّه".
وسيأتي في معنى القربة ما الغاية من هذا النظام العبادي الذي يربط الإنسان بربّه.
أمّا من ناحية العقيدة التي هي الأساس في دفع الإنسان نحو العبادة باتخاذ الخالق أو الإله رباً، فإنّ الرب هو الذي يملك شؤون وجود الإنسان وحياته وآخرته أو تفويض الأمر إليه من الناحية التكوينية والتشريعية.. فالرب هو المالك لشؤون الإنسان والمتكفل لتدبيره وتربيته، فهو سبحانه المدبر الوحيد للكون، وإذا كان معنى الخالق هو الموجد وكلّ ما في السماوات والأرض فهو مخلوق له تعالى فوجودها وأفعالها وآثارها كلها مخلوقة له تعالى وكلّ الأسباب والقواعد مخلوقة له تعالى مع آثارها وأفعالها فيكون الرب هو المالك لشؤون الشيء والمدبر لأمر الخلقة ودوامها واستمرارها وعلى ذلك تكون العبودية في مقابل الربوبية.
- العبودية والربوبية:
كيف نفهم هذه العلاقة بين المفهومين، وما حقيقة الربط بينهما؟ لقد أسلفنا أنّ العبودية هي خضوع للرب، أي توجه الكل إليه ومثوله بين يديه في صفة المملوكية المحضة فكل منهم مملوك لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وذلك أمر بالفعل ملازم له مادام موجوداً، قال تعالى: (إنّ كلُّ مَن في السماواتِ والأرضِ إلّا آتي الرحمنِ عَبداً * لَقَد أحصَاهُم وعَدَّهُم عَدّاً * وكلُّهُم آتِيهِ يَومَ القيامَةِ فَرداً) (مريم/ 93 – 95).
هكذا حالة العبد من الفقر والحاجة، فالمراد بإتيانه له يوم القيامة فرداً إتيانه صفر الكف لا يملك شيئاً مما كان يملكه بحسب ظاهر النظر في الدنيا، وكأن يقال: إن له حولاً وقوّة ومالاً وولداً وأنصاراً ووسائل وأسباباً إلى غير ذلك، فيظهر يومئذٍ إذ تتقطع بهم الأسباب أنه فرد ليس معه شيء يملكه ولن يملك أبداً، فشأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه، إذن عندنا جهتان: الرب مقصور في المالكية، والعبد مقصور في العبودية، فالملك حيث كان متقوم الوجود بمالكه، فإنك لو نظرت إلى دار زيد، فإن نظرت إليها من جهة أنها دار أمكنك أن تغفل عن زيد.. وأمّا لو نظرت إليها بما أنها ملك لزيد، لم يمكنك الغفلة عن مالكها زيد، فإنك لو عرفت أن ما سواه تعالى ليس له إلّا المملوكية فقط وهذه حقيقته، فالنظر إلى ما سواه لا يجامع الغفلة عنه تعالى، وإذا كان كذلك فحق عبادته تعالى أن يكون حضوراً من الجانبين، أمّا من جانب الرب عزّوجل فإنه يعبد معبوداً حاضراً وهو الموجب للإلتفات المأخوذ في قوله تعالى: (إيّاكَ نَعبُدُ) عن الغيبة إلى الحضور.. وأمّا من جانب العبد فتكون عبادة عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته، فتكون عبادته صورة فقط من غير معنى وجسداً من غير روح أو يتبعض فيشتغل بربّه وبغيره.
- النيّة والقربة في العبادات:
النيّة معناها لغة: مطلق القصد وإرادة الفعل وما في حكمة كما التروك، نوى الشيء: قصده، ونويت نيّة: أي عزمت، والنيّة في معناها اللغوي تكون داخلة في جميع العبادات، بل في جميع الأفعال الاختيارية، لأن من مبادئ صدور الأفعال هو العزم عليها.
أمّا اصطلاحاً في عرف الفقهاء، فأورد تعريفها في العروة الوثقى: "وهي القصد إلى الفعل بعنوان الامتثال والقربة، ويكفي فيها الداعي القلبي ولا يعتبر فيها الإخطار بالبال ولا التلفظ، فحال الصلاة وسائر العبادات حال سائر الأعمال والأفعال الاختيارية كالأكل والشرب، والقيام والقعود ونحوها من حيث النيّة، نعم تزيد عليها باعتبار القربة فيها بأن يكون الداعي هو الامتثال والقربة"، أي إنّ الأفعال العبادية قصد الإتيان فيها هو الامتثال لله تعالى.
فالامتثال فرع وجود الأوامر الإلهية والتكاليف الشرعية، فهذه الأفعال حتى تقع عبادة يؤتى بها على وجه التذلل والتخضع، أي وجه التأله أو أخذ المعبود إلهاً والتعبد له بالطاعة، وهو أدناها وما بينهما متوسطات.
وعلى هذا يكون معنى نيّة القربة المشترطة في العبادات هي أن يأتي المكلف بالفعل من أجل الله سبحانه وتعالى فهي الباعث نحو الفعل، سواء كانت هذه النيّة سببها الخوف من العقاب الإلهي أو رغبةً في ثوابه تعالى أو حباً له وإيماناً بأنه أهلٌ لأن يطاع، فالعبادة تقع صحيحة إذا اقترنت بنيّة القربة على أحد هذه الأوجه، والمراد من القرب الذي يتوخاه العبد في عبادته هو طلب الحضور بين يدي الرب والشهود عنده. بحيث كأنه يراه ويشاهده شهوداً قلبياً لا بصرياً، ويستفاد من كثير من الأدعية والروايات أنّ الغاية القصوى من العبادات هو لقاء الله تعالى والوصول إلى هذه المرتبة التي هي أرقى المراتب التي يمكن أن يصل إليها الإنسان، وربما يتفق الوصول إليها بعد التدريب ومجاهدة النفس والتضلع في العبادة المستتبعة – بعد إزالة الملكات الخبيثة – لصفاء القلب وقابليته لمشاهدة الرب والسير إليه فيروم العابد بعبادته النيل إلى هذه المرتبة التي هي المراد من التقرب منه تعالى.►
المصدر: مجلة ينابيع/ العدد 67/ ربيع الأول 1437هـ
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق