القدر في القرآن – اختيار الإنسان – الهداية والاضلال – مشيئة الإنسان ضمن مشيئة الله – أجل الإنسان ورزقه محددان – روح الإيمان بالقدر.
من المطاعن التي وجهها أعداء الإسلام إليه أنّ الإيمان بالقدر هو من أهم أسباب ضعف المسلمين وتخلفهم عن الغربيين في العلوم والفنون والحكم، لأنّ عقيدة القدر في عرفهم تعطل المدارك والقوى وتميل بمعتقدها إلى الكسل انتظاراً لما يأتيه من الغيب.
والحقّ أنّ الرسول محمّداً (ص) عندما سُئِل عن الإيمان ذكر من جملة أركانه: "وأن تؤمن بالقدر خيره وشره من الله". والمعنى: أنّ كلاً من الخير والشر يجري في الكون بمقادير وموازين وسنن وأسباب اقتضتها حكمة الله، وإنّ الله لم يخلق شيئاً إلّا بإرادته، وإنّ جميع ما في الكون موافق لما سبق في علمه.
وإذا رجعنا إلى القرآن نراه لم يذكر القدر على أنّه من أُسس الدين مثل الاعتقاد بالله والملائكة والكتب والرُسل واليوم الآخر وإنما جاء الكلام عن القدر على أنّه نظام سماوي كسائر القوانين السماوية الأخرى، ولم يتعرض القرآن لوجوب الإيمان به.
القَدَر في القرآن:
وإذا نظرنا إلى معنى لفظة القدر التي جاءت في القرآن في مواضع متعددة رأينا: القدر (بفتح الدال وسكونها) والمقدار والتقدير وردت بمعى: جعل الشيء بمقياس مخصوص أو وزن محدود أو وجه معين يجري على سنّة معلومة. قال الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ) (المؤمنون/ 18). أي بمقدار معين. وقال الله تعالى: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرّعد/ 8). أي أنّ لكلّ شيء من مخلوقات الله سنناً ونواميس ومقادير منتظمة كسننه في حمل الإناث وعقمها وزيادة الذرية ونقصها. والإنسان جزء من الوجود وينطبق عليه النظام الذي اقتضته حكمة الله وتقديره. قال الله تعالى: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (عبس/ 18-19). وجاء في القرآن عن الزمن: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) (المزمل/ 20). وجاء في التعميم: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان/ 2).
فيتبيّن لنا من هذه الشواهد كلّها أنّ عقيدة القدر في القرآن هي التي تعلم المؤمنين أنّ لهذا الكون نظاماً محكماً، وسنناً مطردة ارتبطت فيها الأسباب بالمسببات وإن ليس في خلق الله خلل ولا مصادفات، ومن فائدة هذا الاعتقاد انّ أهله يكونون أجدر الناس بالبحث في نظام الكائنات وتعرف سنن الله في المخلوقات، وطلب الأشياء من أسبابها والجري إليها في سننها.
اختيار الإنسان:
بعد ذلك نلقي نظرة إلى القرآن فقي مسألة اختيار الإنسان لنرى مبلغ ضعف التهمة التي يرمون بها الإسلام وهو بريء منها. ويتجلى لنا ذلك في كلام الله سبحانه عن المشركين حين احتجوا بأنّ أعمالهم السيئة إنما كانت بإرادة الله ومشيئته، فقد رد الله سبحانه عليهم: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام/ 148-149).
والمعنى: سيقول المشركون لو شاء الله ما أشركوا، أي أنّه تعالى شاء أن يشركوا، وقد رد الله تعالى شبهتهم بحجتين: الأولى – إنّ الله عاقب المشركين السابقين لسوء فعلهم. ولو إنّ أعمالهم السيئة كانت بمشيئة الله لما عاقبهم عليها. وإنّ الاعتذار بالمشيئة نوع من الكذب على الله. والثانية – إنّ الله تعالى لم يقل مثل هذا القول على لسان واحد من رسله، وطالب المشركين بدليل علمي على زعمهم: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا). ثم أثبت الله دحض زعمهم بقوله: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ).
وواضح من هذا أنّه لو شاء الله أن يكون الناس على طريق واحد لكان هذا الطريق هو طريق الهداية، ولكن الناس غير مجبرين على سلوك طريق بعينه، فقد توضحت مشيئة الله في إرسال رسله ليبينوا للناس الحقّ من الباطل، وترك للإنسان تفضيل أحد الطريقين على الآخر وسلوك السبيل الذي يختاره، كما جاء في قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3). وقوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/ 29).
فمشيئة الله تتجلى في إرسال الرُسل لهداية الناس وتعليمهم سبيل الرشاد والتحذير من سُبل الضلال، ومشيئة الإنسان تتوضح في اختياره لأحد السبيلين.
والقرآن في كثير من آياته يثبت الاختيار للإنسان وإنّه مسؤول عن أعماله، وإنّ الفساد الذي يشكو منه في نظمه الاجتماعية، وضروب الشر الشائعة في شؤونه المعيشية كلّ ذلك نتائج لمقدمات وضعها بنفسه. قال الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم/ 41).
ويقول سبحانه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى/ 30). ويقول أيضاً: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصّلت/ 46).
والقرآن يدعو إلى الاعتماد على الذات في إحداث الانقلابات الإصلاحية التي ترفع بالجماعة إلى حياة طيبة وأمن واستقرار. قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11).
هذا ما ذكره القرآن وهو صريح على أنّ إرادة الإنسان وعمله هما مصدراً مثوبته أو عقابه، وهذا لا يتفق مع ما يقوله أعداء الإسلام من أنّه دين تواكل يمنع أهله من الترقي في حياتهم الدنيوية.
الهداية والإضلال:
الهداية والإضلال هما بيد الله، لكن هذا الأمر الذي قرره الإسلام اتخذه البعض حجة على أنّ الإنسان مجبر مثل قوله تعالى مخاطباً رسوله محمّداً (ص): (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (الزّمر/ 19)، (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (القصص/ 56).
فالهداية والإضلال اللذان بيد الله عللهما القرآن بأنّهما على سابقة استحقاق للعباد، وبين أسبابهما مثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة/ 51). (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (الزّمر/ 3). (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف/ 5). (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر/ 35). (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ) (البقرة/ 26). (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) (إبراهيم/ 27).
فأصحاب هذه الصفات الذميمة لا يستحقون الهداية ورحمة الله.
أما الذين يستحقون الهداية فأمثال أصحاب هذه الصفات: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن/ 11). (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) (الرعد/ 27). (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (المائدة/ 16).
مشيئة الإنسان ضمن مشيئة الله:
والإسلام يثبت الاختيار والكسب للناس ولكن الناس يفعلون بإرادتهم واختيارهم ما يريد الله أن يفعلوه: (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير/ 27-29).
فالله سبحانه يخبر إنّ الناس يفعلون بإرادتهم واختيارهم (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) ولكن يفعلون ما يشاء الله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
وعلى هذا المعنى وردت بعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (القصص/ 68). (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ) (التوبة/ 51). (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) (الأنعام/ 17-18).
"والواقع أنّ هذه الآيات وما جرى مجراها تصور حقيقة علمية قررتها كثرة فلاسفة الغرب وعلمائه واطلقوا عليها مذهب الجبرية، ونسبوا الجبر فيها إلى سنة الكون ومجموع الحياة فيه بدل أن ينسبوها إلى الله وعلمه وقدرته... وهذه الجبرية العلمية تذهب إلى أنّ مالنا من اختيار في الحياة إنما هو اختيار نسبي ضئيل القدر، وأنّ القول بهذا الاختيار النسبي يرجع إلى ضرورات الحياة الاجتماعية من ناحية عملية أكثر مما يرجع إلى حقيقة علمية أو فلسفية، فلو لم يتقرر مذهب الاختيار لتعذر على الجماعة أن تجد أساساً تقيم عليه تشريعها وحدودها وتنظم بذلك حياتها...".
الأجل والرزق مُجدَّدان:
وما جاء في القرآن من ناحية أجل الإنسان فيتبيّن لنا من ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا) (آل عمران/ 145). (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (النساء/ 78). (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ) (فاطر/ 11).
فهذه الآيات أصدق وصف لواقع هذه الحياة، فإنّ أمامنا كلّ يوم دليلاً على أنّ الأجل قدَرٌ لا مفر منه. فمن الناس من يأتيه الموت فجأة ولا يعرف أحد له مرضاً، حتى إنّ طائفة من الأطباء يقولون: إنّ الإنسان يولد وفي تكوينه جرثومة انتهاء حياته.
وإذا كان أجل الإنسان مقدراً فكذلك رزقه مقدّر أيضاً:
(إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران/ 37).
هذا الذي تعرض له القرآن في مسألة القدر والاختيار والرزق والأجل، أما مَن يحاول "البحث فيما وراء ذلك من التوفيق بين ما قام عليه الدليل من إحاطة علم الله وإرادته وبين ما تشهد به البداهة من عمل المختار، فيما وقع عليه الاختيار فهو من طلب سرّ القدر الذي نهينا عن الخوض فيه، واشتغال بما لا تكاد تصل العقول إليه".
رُوح الإيمان بالقَدَر:
الإيمان بالقدر يسوق معتقده دائماً إلى السعي والعمل، فيرى منفعته في السعي قائلاً: إن لم يثمر أحدهما فسيثمر الآخر، ومؤملاً خيراً من أسرار القدر، لأنّ المقدّر غير معلوم ولا أمارة له غير أفعاله وأعماله.
ومن حكمه السامية إنّ الله دعا الأنفس البشرية للإيمان بالقدر ليكون مخففاً لجزعها إذا نزلت بها النوائب ومثبتاً لها عند ملاقاة المصائب وتجشم المصاعب، فإذا هاجم اليأس قلب امرىء من مطلب يطلبه، أو قامت العقبات دون رغبة يرغبها، قام الإيمان بالقدر والاعتماد على الله لنجدته، فهو يفتح له الأبواب المغلقة ويذلل له المصاعب، فيأخذ العدة من حيث أمره الله باتخاذها.
كما أنّه عند التوفيق في أعماله، وما يطرأ عليه من مفاجآت سارة لا ينسى أن يزينها بالتواضع، ولا يفقد رشده من شدة الفرح، وإلى هذا يشير القرآن:
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد/ 22-23).
فالله يخبر بأنّ ما يصيب الأرض والأنفس من مصائب مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله، ثمّ يطلب من الإنسان ألا يهلكه الحزن إذا أصابه شر لأنّ هذا مقدر له في كتاب ولم يكن هناك بدّ من أن يختاره، وإذا قدّر له خير، عليه أن يذكر أنّ هذه النعمة ثابتة في كتاب ولم يكن هناك بدّ من حصولها ولم يكن هناك بدّ من اختيارها فيجب أن لا يطغيه الفرح وأن لا تبطره النعمة.
والاعتقاد بالقدر تتبعه صفات الشجاعة والبسالة والجود والسخاء فالذي يعتقد بأنّ الأجل محدود، والرزق مكفول، والأمور بيد الله يصرفها كما يشاء، كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقّه وإعلاء كلمة أُمّته وملته، وكيف يخشى الفقر حين ينفق من ماله في تعزيز الحقّ وفعل الخير حسب الأوامر الإلهية.
المصدر: كتاب رُوح الدين الإسلامي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق