محمّد علي التسخيري
إن رأي القرآن الكريم والنصوص الإسلامية في مصادر المعرفة اليقينية هو:
- أوّلاً، الحس:
قد نص القرآن على كونه مصدراً من مصادر المعرفة بانضمام العقل إليه، وذلك في قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ) (النحل/ 78).
ونؤكد هنا على مسألة انضمام التعقل باعتبار أنّ الحس لوحده لا يمكنه أن يؤدي إلى يقين كامل صحيح مالم تطبق عليه القواعد الأولية البديهية، أي مالم تجر عليه عملية، ومن هنا فقد دفع القرآن الإنسان للسير في الأرض والاستفادة من الحواس التي منحها واعمال التدبُّر لاكتشاف الحقائق الكونية.
(قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام/ 11).
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ) (الأعراف/ 185).
وينحو باللائمة على أولئك الذي امتلكوا الحواسَّ ولم يستفيدوا منها في مجال التدبُّر واكتشاف الواقع فإذا هم: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (البقرة/ 18).
ومن الملاحظ أن أهم دليل يركز عليه القرآن الكريم في مجال معرفة الله هو دليل النظام الكوني المتقن، والتناسق الرائع، وهو يعتمد أول ما يعتمد على الحواسّ ولكن في إطار من التفكير والتدبُّر.
- ثانياً، العقل:
وعليه فالمصدر الثاني لتكوين المعرفة الإنسانية هو العقل، أو فلنقل بتعبير آخر: هو قدرة الذهن الإنساني على تطبيق الكبريات العقلية الوجدانية على الموارد المختلفة، واستنتاج نتائج جديدة للإيمان بها بيقين صحيح: فبدون وجود الأوليات البديهية، وبدون قدرة الإنسان على تطبيقها لا معنى للإيمان بالتعقُّل والتدبُّر، فما التدبُّر إلّا تجاوز المحيط المادي لاكتشاف ماوراه من عوالم وحقائق، وقد رأينا كيف فتح القرآن – في الآية السابقة – أبواب المعرفة الإنسانية عبر السمع والأبصار والأفئدة كما طالعنا – الآيات الداعية إلى التعقل والتدبر ومنها:
(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد/ 24).
ولإكمال رسم موقف القرآن نجد أنّه في موارد أخرى يقوم باستدلالات عقلية خالصة: مما يكشف عن إيمانه بالقدرة الذاتية للإنسان على اكتشاف الحقيقة، وذلك كقوله تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء/ 21-22).
وقوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور/ 35).
وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (الأحقاف/ 33).
كما إنّنا نجد القرآن يدفع للتدبر والتعقل عندما يعلِّل بعض الأحكام بعلل معيّنة مما يؤكد اهتمامه بدوره في الربط بين الأحكام وأهدافها وهي الفلاح أو التقوى وأمثالهما.
- التحذير من خطأ العقل:
وتبدو لنا روعة الموقف القرآني من مصدرية العقل للمعرفة عندما نلاحظ انّه ينبه الإنسان على موارد خطأ العقل وان عليه أن يتجنّبها بوعي ودقة.
فقد يتبع الإنسان أُموراً ظنية وهو يتصور أنها يقينية مقطوع بها لأنّها توافق مصلحته فيذكَّره القرآن بخطئه حين يقول:
(أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) (النجم/ 19-23).
ويقول تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا) (الفرقان/ 43).
ويقول تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمد/ 14).
- موارد خطأ العقل:
فموارد خطأ العقل هي موارد تحكم الهوى والمصالح الشخصية، والموارد التي تزين للإنسان سوء عمله، ومن هذه الموارد تصور الإحاطة بكل جوانب الحقيقة والغفلة عن بعض العناصر الدخيلة في الاستدلال والاستنتاج، ولذا ينبِّه القرآن على هذه الحقيقة بقوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85).
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ البعض حاول التقليل من دور العقل في المنطوق الإسلامي مستندين إلى هذه الموارد التي يشير إليها القرآن حيث يقع العقل في الخطأ، كما يشيرون إلى بعض الروايات التي تحدُّ من عمل العقل كما في الرواية التي أكدت على أن (دين الله لا يصاب بالعقول) ولكن الواضح أنّ الآية الآنفة قد بينت – كما قلنا – أحد أسباب الخطأ العقلي في بعض الموارد، وليست تريد أن تسد باب المعرفة العقلية، كيف وقد رأينا تأكيد القرآن على العقل والاستدلال به، أمّا تلك الروايات التي نفت دور العقل فقد جاءت في صدد ردِّ الأسلوب الذي اتبعته مدرسة أهل الرأي في قياس بعض الأحكام على بعضها الآخر والاستحسان وأمثالهما من الأدلة التي هي من الأحكام الظنية وهي في الحقيقة من باب اتباع الظن و(إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم/ 28)، ولمّا كان هذا الأمر خطيراً فقد وقف الأئمة من أهل البيت (ع) ضده بقوة، وأوضحوا أنّ العقل لا سبيل له لإدراك علل الأحكام الشرعية؛ لنقصه وضعفه.
أمّا في الموارد الطبيعية للتعقل – كموارد الاستدلال – فإنّ الأحكام القطعية للعقل أمر لا يقبل الرد، وقد جاء في الروايات: "إنّ الله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة؛ فأمّا الظاهرة فارسل والأنبياء وأمّا الباطنة فالعقول"، والحقيقة هي أنّ الله تعالى والأنبياء لم يعرفوا إلا بالعقل السليم، وهل أصبح الإنسان إنساناً بدون العقل.
ثالثاً، الإلهام الإلهي:
أمّا المصدر الثالث: فهو الإلهام القلبي والهداية الإلهية والوحي، وهذا ما يبدو لنا عند مطالعة مختلف الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ومنها قوله تعالى: (جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت/ 69)، وقوله تعالى: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال/ 29).
وقد جاء في الروايات عنه (ص): "جاهدوا أنفسكم على شهواتكم تحل قلوبكم الحكمة" وفي الكافي "من أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" وفي نهج البلاغة "فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة". (صبحي الصالح/ خ230).
وأخيراً، فممّا لا شكّ فيه في المنطوق الإسلامي أنّ الوحي يتخذ دور الرافد الكبير للمعرفة الإنسانية وخصوصاً في تلك الحقول التي يقصر العقل عن بلوغ مداها كحقول التشريع.
المصدر: كتاب في الطريق إلى التوحيد
ارسال التعليق