◄"إنّ هناك تسابقاً يجري في العالم اليوم للعناية بالأطفال وأساليب إعدادهم بشرط أن تكون البداية من الطفولة المبكرة.. هذه العناية ليست مجرد رعاية طفل، بل إعداد للمجتمع وتكوين لسلاح المستقبل، ولا يمكن أن يأتي من فراغ أو صدفة، أو إرتجالاً، إنّما وليد دراسات وإعداد طويل محسوب ومكفول له الإمكانات والضمانات التي تصل إلى الغاية المنشودة. لم يعد الإهتمام بالطفولة مجرد إهتمام بقطاع من المجتمع، بل هو إهتمام بالمجتمع، ولابدّ من مضاعفة الإنجازات بالأطفال حتى تملأ أبصارنا كل عام بصورة جديرة بالطفل العربي الذي يُمثِّل جيل المستقبل"
تظهر بعض المشاكل الخاصة بالخوف من المدرسة عند بعض الأطفال، التي قد تصل إلى حدِّ الرهاب والتي تتجلّى في إضطرابات في النوم وصعوبة بالغة في الإستيقاظ صباحاً في أيام المدرسة، فإذا قام الطفل إلى المدرسة بدا كسولاً وخرج متلكئاً، وإذا ما اقترب من مدخل المدرسة أحسّ بخفقان شديد ورعب عارم يحول بينه وبين تخطي عتبتها، ومنهم مَن تصيبه آلام حادة في المعدة أو صداع مفاجئ أو غثيان لم يشعر به من قبل، ما يعده الأهل تمارضاً أو ما يشبه التمارض، وربّما انتابته هذه الأعراض داخل حجرة الدراسة إثر وقوع عينيه على مشهد مؤثر أو تعرُّضه لزجر أو عقاب ونحو ذلك. أمّا في غير أيام الدراسة، فيستعيد ذلك الطفل حيويته ونشاطه وعافيته وكأن شيئاً لم يكن.
ويعرض لنا الدكتور أحمد المطيلي، الإختصاصي النفسي، أعراض هذا الرهاب الذي يتجلى في أعراض البكاء الشديد الناتج عن الخوف الحاد المرتبط بالإنفصال عن الوالدين، ولاسيما الأُم والمصاحب بالرفض التام للمكوث في الفضاء المدرسي منذ الوهلة الأولى التي تطأها قدماه. وفي حالات أخرى، تبرز مظاهر الرهاب المدرسي بعد أن يرتاد الطفل المدرسة إرتياداً منتظماً لا يدع مجالاً للشك في توافقه وتآلفه مع مدرسيه وبقية زملائه، فإذا به يفاجئ الأسرة بأعراض نفسية أو سلوكية تحوجه إلى المكوث في البيت لوقت قد يطول وقد يقصر تبعاً لحدّة الأعراض والملابسات الثانوية خلفها.
وقد لوحظ في أحيان أخرى إقتران الرهاب المدرسي بجملة من الإضطرابات بالأكل كضعف الشهية والغثيان والتقيؤ والدوّار والصداع أو إضطرابات النوم والكوابيس، كما قد يقترن كذلك بأنواع أخرى من الرهابات كالخوف الشاذ من الحشرات أو الحيوانات أو الظلام أو الرهاب الإجتماعي فضلاً عن الوساوس.
ولاريب في أنّ الرغبة التي يبديها الآباء في تفهُّم مشاعر الطفل ومطالبه وسعيهم إلى مد يد المساعدة إليه بتهدئته وطمأنته وتوفير الجو الملائم للنمو الكامل والمتوازن كلّها مواقف لا غنى عنها لقدرته على التصدِّي لهذه المخاوف والتي قد تصل إلى حدِّ الرهاب. وبوسع الآباء كذلك أن يبادروا إلى فهم ما حصل إعتماداً على مبدأ التواصل القائم على الإنصات والحوار الهادئ. ولا يحصل ذلك إلا متى استشعر الآباء مدى ما يستشعره الطفل نفسه، بحيث تتهاوى الفروق القائمة بينهم حسّاً ووجداناً وتعبيراً. ومن هذا القبيل أن يتقبّلوا مخاوف الطفل ويحملوها على محمل العناية والإهتمام بدل الإستهانة به أو السخرية منه والزراية عليه. وأن يُهدئوا من روعه ويقفوا بجانبه بدل تجاهله أو القسوة عليه حينما تنتابه الرهبة والهلع.
ولكن من ناحية أخرى، فإنّ الحماية الزائدة والشفقة المفرطة والمبالغة في الحذر والخوف الشديد عليه، فما يحسن توقيه واجتنابه لئلا يتسرَّب الشك والوهن إلى نفسه. ولابدّ في هذا الصدد أيضاً أن نعلِّمه الأذكار البسيطة والخفيفة التي تجدِّد إيمانه بخالقه وتبث الطمأنينة والسكينة في أعماقه، وتبعث في نفسه التفاؤل والأمل إن كان يستطيع إستيعاب هذا. مثل هذه التصرُّفات كفيلة بتخفيف حدّة الإضطرابات وإشعار الطفل بأنّه لا يقف وحيداً في مهب الإنفعالات العاتية ورياحها العاصفة بسلامته النفسية وتوازنه العقلي.
- الطفل والأنشطة المدرسية
ولعل أخطر ما يتهدد الطفل في هذا الشأن الإنقطاع المدرسي، الذي قد يؤدِّي إلى الفشل دراسياً، ولا شك في أنّ الطفل الفاشل دراسياً قد لا يكمل مسيرة تعليمه، فيتقهقر عن زملائه، وبعضهم يلجأ إلى ترك دراسته تماماً فنصبح هنا أمام حالة من (الحرمان التربوي)، وهذه تؤدِّي إلى إفتقار الطفل إلى الخبرات المنظمة الهادفة لنموه من قبل مؤسسة مسؤولة عن التعليم والثقافة في الدولة هي المدرسة. ولا نغفل جانباً مهماً هو أنّ خروج الطفل عن دائرة التعليم يجعله في حالة من الإستهداف لعوامل إجتماعية سلبية في المجتمع، منها جماعات الأقران في مثل عمره، فضلاً عن فقدان هذا الطفل للثقافة والعلم اللذين يمثلان هدفاً رئيسياً لهذه المؤسسة الإجتماعية.
وإذا كان الطفل يأتي إلى المدرسة ليبدأ تكوينه العقلي والحضاري والإنساني، فلذلك ينبغي أن تكون المدرسة قطعة من الجمال والنظافة والتنسيق، لأنّ الطفل الذي تستقبله هذه المدرسة يتعلّم بعينيه ثمّ يتعلّم بأذنيه. ولذلك عند زيارة الرئيس الصيني (ماوتسي تونج) لإحدى مدارس بكين العاصمة كان الدرس عن زراعة أحد المحاصيل المهمة، ولاحظ الزعيم الصيني كثرة أسئلة التلاميذ، ولاحظ أيضاً حيرة المعلم في الإجابة، فطلب (ماو) أن يصحب المعلم تلاميذه إلى الحقول. وفي الطريق، قال الرئيس للمعلم: "اصحب تلاميذك إلى المواقع الطبيعية فيكفوا عن الأسئلة واصحبهم أيضاً إلى المتاحف فتلتصق المعلومات بأذهانهم أكثر".
إنّ التعليم ليس حشو معلومات، بل استنباطها بالرؤية. وفي غياب الصورة الإيضاحية، تغيب المعلومات وتتبخر وتبقى المشاهدة والممارسة.
- الطفل والثقافة
وحين ينمو الطفل ويتقدّم في مراحل التعليم، فلابدّ هنا من الإهتمام بثقافته، والثقافة هنا هي منظومة القيم والمعايير والمعتقدات والتقاليد والممارسات التي تتكوّن في المدرسة مع الوقت نتيجة لتفاعل مجتمع المدرسة (الإدارة والمعلِّمون والطلاب) مع بعضهم وحلّهم للمشكلات والتحدِّيات التي تواجههم. وهذه المنظمة غير رسمية (لا تدوَّن عادة في وثائق المدرسة)، بل تتكوّن من التوقعات والقيم التي تشكِّل طريقة تفكير الناس ومشاعرهم وتصرُّفاتهم في المدرسة. وهذه التأثيرات المتبادلة هي التي تجعل المدرسة وحدة واحدة وتعطيها خصوصيتها. والثقافة المدرسية لها قوة بالغة في التأثير على جميع جوانب العملية التربوية في المدرسة، على الرغم من أنّها قد تؤخذ ببساطة ويتم تجاهلها أو التقليل من شأنها، فتأثيرها يبدأ بمظهر العاملين في المدرسة (طريقة لبسهم) ويمتد إلى أحاديثهم واهتماماتهم وتركيزهم على تحصيل الطلاب وطرائق تدريسهم.
إنّها التي تجعلنا ندرك كذلك سحر الأشياء المصنوعة وما يقذف به المصنع والآلة من نتائج له طابعه الجمالي المنفرد، بل له (ألحانه ورومانتيكيته) على حد تعبير (برشت). إنّها ترينا فيما ترينا (واقع المدينة المدهش) على حد تعبير (بودلير). إنّها ترينا بقول موجز ما في إمتزاج الإنسان بالطبيعة من إبداع وجمال.
وهي، فوق هذا كله، كما يقول الكاتب عبدالله عبدالدائم في مقال له عن (المدرسة والمتع الثقافية)، تطلعنا على الحركة المستمرة المتصلة للتاريخ، وتجعلنا نحب الحاضر حباً أعمق ونفهمه فهماً أسلم حين نربطه بماضٍ نستمتع بجماله وروعته كما يستمتع الإنسان بذكريات طفولته، بل إنّها تجعلنا نصل في النهاية إلى الإدراك الكلي الشامل ونعيش في بيئة أوسع وأشمل، برؤية كلية تأخذ الأشياء الجزئية معناها من خلالها.
- المعلِّم المبدع
شئنا أم أبينا ستظل للمعلِّم مكانته في منظومة التعليم، كما سيظل في موقع القلب منها وحجر الزاوية فيها، إذ من الممكن أن يُبنى منهج غاية في الجوندة والإتقان، ويظل مجرد حبر على ورق ما لم يأت المعلِّم الحصيف المُبدع الذي ينفخ فيه من روحه ويحوِّله إلى واقع يُرى رأي العين ويُلمس لمس اليد.
كما لا يمكننا أن نغفل دور المعلِّم وأهميّته البالغة في تحقيق أهداف المدرسة الثقافية والتربوية، فضلاً عن التعليمية، وقدرته البالغة في التأثير على عقول ووجدان تلاميذه. فقد أثبتت الدراسات والخبرات التربوية المتواصلة أنّه لكي تكون معلِّماً عظيماً، فإنّ الأمر يستلزم ما هو أكثر من مجرد حيازة شهادات رسمية. فهو يعني الشعور بنداء داخلي للقيام بالتدريس، والإتصال العاطفي مع الأطفال والتعديل والإبتكار الدائم لتلبية الإحتياجات الفردية لكل طالب.
تقول (ليزا ماثيو) وهي معلِّمة رياض أطفال منذ 12 عاماً في كاليفورنيا: "أعتقد أنّ المعلِّم قد يبلي بلاءً حسناً في إختبارات الـNCLB، ولكنه مع ذلك لا يملك ما يؤهله ليكون مدرِّساً عظيماً، فبعض الصفات مثل القلب الطيب والرغبة والموقف الملتزم لا يمكن قياسها".
يقول (بارينت بيري) رئيس ومؤسِّس مركز Quality Teaching في شمال كارولينا: "كثير من الناس عندهم فكرة مبسطة عن التدريس وهي أنّ التدريس عبارة عن تحدّث فقط، بينما التعلُّم لا يتعدّى الإستماع". ويضيف: "إنّ NCLB تركِّز على ما يعرف المعلِّمون، بينما تتجاهل أهميّة طرق التدريس. يجب أن يقيِّم المعلِّمون ليس من خلال الإختبارات التحريرية فقط، بل من خلال الزيارات الصفية".
وتعتقد المديرة (سوزان ماستيريسون) إنّ حب التدريس للأطفال مهم للغاية. وتقول، وهي ترأس المنظمة الوطنية لمديري المدارس الإبتدائية، إنّها عندما توظِّف معلِّمين جدداً فإنّها تسألهم (ما هو أفضل شيء علمتموه لطفل وترغبون أن تكرروه مرّة ثانية)، وهي تشرح ذلك قائلة: "إنّه يعني التعاطف والتواصل مع أجزاء من حياة التلاميذ، هذا ما يفعله أقوى معلِّمينا".
إنّ المعلِّمين الناجحين يمتلكون البصيرة ومهارات التفكير المستقبلي التي يمتلكها منظم حركة الطائرات. ومع أنّ قدرات الطلاب منثورة جميعاً على الخريطة، فمن المهم أن نتعرَّف على الفروقات ومن ثمّ نُعدِّل المنهج تبعاً لها. وهذا يستلزم وقتاً ومعرفة، يقول (بيري): "يجب أن يتعلّم المعلِّمون كيف يتعلّم التلاميذ وماذا يعرفون".
تقول (ليندا دارلينغ مهموند) وهي بروفيسورة في التعليم بجامعة ستانفورد ومحرِّرة بالإشتراك لكتاب (معلِّم جيِّد في كل فصل.. إعداد معلِّمين مؤهّلين تأهيالً عالياً يستحقهم أطفالنا): "إنّ التدريس أصبح أكثر تطلباً مما كان عليه قبل عشرين سنة والتوقعات لتعليم التلميذ أعلى من السابق". وتضيف دارلينغ: "إنّ التغيرات الحديثة في الإقتصاد تعني أنّ على جميع الأطفال أن يتقنوا مهارات التفكير الإبداعي حتى يكونوا على أتم استعداد لبيئة العمل المعقدة. وفي الوقت نفسه، صارت المدارس أكثر تنوّعاً مع طلاب التعليم الخاص والطلاب الذين يتحدّثون الإنجليزية كلغة ثانية والطلاب ذوي الحاجات التي لم تلب من قبل عائلاتهم. كل هذا يعني أن عمل المعلِّمين أصبح أصعب مهاراتهم وأصبح من اللازم أن نكون أقوى".
ولكن هناك معايير جديدة لابدّ من توافرها في شخص المعلِّم في الوقت الحاضر، وهذه نحدها واضحة في النموذج الأمريكي في وضع المعايير لجودة الممارسة المهنية للمعلِّم، ومن أهمّها:
أوّلاً: أن يتمكّن من المفاهيم الأساسية وبنية العلوم التي يتخصص في تدريسها ويتقن مهاراتها.
ثانياً: أن يقدِّم فرصاً للتعلُّم تدعم النمو العقلي والإجتماعي والشخصي للمتعلِّم.
ثانياً: أن يبتكر مواقف ويخلق فرصاً للتعلُّم تدعم النمو العقلي والإجتماعي والشخصي للمتعلِّم.
رابعاً: أن يمتلك مدىً واسعاً ومتنوّعاً من طرائق واستراتيجيات التعليم والتعلُّم يستخدمها في تشجيع وتنمية قدرات الطلبة على التفكير الناقد وحل المشكلات وأداء المهارات.
خامساً: أن يُوفِّر بيئة تعلُّم تحفِّز التفاعل الإجتماعي الإيجابي والإندماج النشط في التعلُّم.
سادساً: أن يعزِّز البحث الإيجابي والإستقصاء النشط والتعاون والتفاعل الصفي، من خلال إلمامه بأساليب التواصل اللفظية وغير اللفظية وتوظيفها بفاعلية في تحقيق ذلك.
سابعاً: أن يستخدم بفاعلية الأساليب والإستراتيجيات التقويمية المناسبة لتقديم وتأمين النمو العقلي والإجتماعي والجسمي للمتعلِّمين ويحافظ على إستمراره.
ثامناً: أن يُنمِّي علاقات مع الزملاء في المدرسة ومع أولياء الأُمور وأُسر الطلبة والهيئات الأخرى في المجتمع المحلي من أجل دعم تعلُّم الطلبة.
- المعلِّم.. وثقافة الإبداع
لقد نجم عن زيادة المعرفة وتدفُّق المعلومات في السنوات الأخيرة زيادة كبيرة في استخدام هذه المعلومات وتنظيمها واختزانها إلكترونياً. فمادامت المعلومات تتضاعف كل فترة وجيزة، ومادام الإنسان ليس في مقدوره أن يسيطر على كل هذا الزخم من المعلومات بمنطق تقانة الذاكرة، ومادامت هذه المعلومات يمكن استردادها إلكترونياً نيابة عن ذاكرة الإنسان، إذ هي مفاتيح المعرفة للمتعلِّم، إذن فليكن الإتجاه بالمعلِّم صوب ثقافة الإبداع.
ومن هنا تصبح للمعلِّم أدوار جديدة في عملية التعليم، أهمّها:
- مساعدة الطلاب للحصول على مفاتيح المعرفة ومصادرها
- مساعدة الطلاب للحصول على المعرفة بأسرع وقت ممكن
- تدريب الطلاب على إنتاج المعرفة لا مجرد حيازتها أو إستهلاكها
- تدريب الطلاب على تحويل المعلومات إلى معارف وأفكار
- توجيه الطلاب إلى قبول الآخر وإحترامه
- مساعدة الطلاب على التمييز بين الغزو الثافي والتفاعل الثقافي
- تأكيد أهميّة التراث العربي الإسلامي في نفوس الطلاب، فهو يمثِّل جزءاً مهماً من الهوية
- تدريب الطلاب على إدارة الحوار والقبول بفكرة حوار الحضارات والثقافات
- الإلمام بالإستراتيجيات التدريسية المناسبة للمبدعين
- بناء الإنسان
إنّ هدف التعليم الأساسي هو الإنسان، وإذا كان الإنسان عاملاً واحداً بين العوامل الضرورية للتنمية الشاملة المستمرة، فهو في الوقت نفسه هدفها الأوّل وهو العامل الحاسم، فمن دونه لا يمكن استغلال الموارد. ومن هنا لابدّ من ربط مشروعات التنمية بخطط الموارد البشرية وتطوير الطاقات الإنسانية، وهذا بدوره يؤدِّي إلى تطوير برامج التعليم وربطها بخطط التنمية ومتطلِّباتها.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق