تحتل أرض فلسطين مكانة عظمى في الإسلام، إذ بها القدس ثاني مدينة أضاء بها نور التوحيد بعد مكّة المكرمة، حيث بُني بها المسجد الأقصى بعد بيت الله الحرام أوّل بيت وضع للناس بأربعين عاماً، هذا المسجد الذي كان أُولى القبلتين، ونال المنزلة الثالثة في القدسية بعد المسجد الحرام ثمّ المسجد النبويّ، وأُطلق عليه لذلك ثالث الحرمين، وامتدت حوله البركة لتشمل أرض فلسطين كلّها، حيث قال الله عزّوجلّ عنه: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء/ 1). ولا عجب فقد كانت ميدان الرسالات السماوية، تلك الرسالات التي خُتمت برسالة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فيكاد يكون لجميع الأنبياء والرُّسل الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم صلة بها، فنبيّ يمرّ بها، ونبيّ يدعو فيها، ونبيّ يُدفن فيها. فصالح عليه السلام، كما جاء في بعض الروايات قيل: إنّه آوى والذين نجوا معه إلى «الرملة» أو غيرها من أرض فلسطين. وإبراهيم عليه السلام، جاء إلى فلسطين مسلماً ودخلها مع لوط عليه السلام، مهاجرين بدينهما من العراق، فأقام إبراهيم عليه السلام في مدينة الخليل، وأقام لوط عليه السلام في جنوبي البحر الميت في مدينة «سدوم».
داود وسليمان عليهما السلام أقام الله لهما الملك بها، وزكريا ويحيى عليهما السلام عاشا في كنفها، وعيسى عليه السلام رفعه الله إليه منها، ومحمّد صلى الله عليه وآله سلم أُسري به إليها، وأمَّ الأنبياء في المسجد الأقصى، وعُرج به منه إلى السماء، فشرف الله بذلك هذا المسجد وأرض فلسطين تشريفاً عظيماً، وجعلت بيت المقدس بذلك بوابة الأرض إلى السماء، وهناك في المسجد الأقصى جمع الله سبحانه لرسوله الأنبياء من قبله فأمّهم في الصلاة، دلالة على استمرار رسالة التوحيد التي جاء بها الأنبياء، وعلى انتقال الإمامة والريادة وأعباء الرسالة إلى الأُمّة الإسلامية. قال سبحانه وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء/ 1).
وقد ورد ذكرها مرّات عديدة في القرآن الكريم في كثير من الآيات، منها قول الله عزّوجلّ حاكياً عن إبراهيم ولوط عليهما السلام: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 71). والعلماء نصّوا على أنّ الأرض المباركة هنا هي بلاد الشام وتحديداً فلسطين واختارها الله لهجرة خليله إبراهيم (عليه السلام) لما لها من بركة وفضل على سائر البقاع. وقوله تعالى حاكياً عن سليمان (عليه السلام): (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) (الأنبياء/ 81). والأرض هنا المقصود بها فلسطين، حيث بيت المقدس وما حوله. وبيّن القرآن بركة أرض فلسطين بجبالها وسهولها وطيورها بالتسبيح والتهليل والتكبير إذ أسمع الله نبيّه داود عليه السلام ذلك بقوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) (سبأ/ 10) وبتسخير الريح لسليمان (عليه السلام): (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) .
من هذا العرض نرى مسيرة النبوّة المسلمة في أرض فلسطين، مسيرة دعوة لا تحمل جنساً ولا لوناً ولا طائفة، لا تحمل معها عصبية جاهلية، مفصولة عن قوى الشرّ في الأرض، نقية من الشِّرك. وأنّ بني إسرائيل إذا كانوا سكنوها قديماً فقد سكنوها باسم الإسلام يحملون الدعوة الإسلامية، بعد أن منَّ الله عليهم بأن بعث فيهم أنبياء يدعون بدين الإسلام، وجعل فيهم ملوكاً يقيمون شرع الله، يقيمون دين الإسلام؛ وليس لأنّها لهم يتوارثونها بالنسب دون سواهم .
علينا نحن ـ كمسلمين ـ أن ندرك هذه الحقائق، ونعي أنّ أرض فلسطين هي أرض إسلامية، لا تخص شعباً مسلماً دون آخر.. فجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مطالبين بالدفاع عن حرمتها وحرمة المسجد الأقصى المبارك.. وإذا كانت رابطة العقيدة والإيمان هي الأساس الذي يجتمع عليه المسلمون مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم، فإنّ المسلمين هم أحق الناس بميراث الأنبياء عليهم السلام، لأنّ المسلمين هم الذين ما يزالون يرفعون الراية التي رفعها الأنبياء عليهم السلام، وهم السائرون على دربهم وطريقهم، وهؤلاء الأنبياء عليهم السلام هم مسلمون موحِّدون حسب الفهم القرآني. وبشكل عام فأُمّة التوحيد هي أُمّة واحدة من لدن آدم عليه السلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأنبياء الله ورُسُله عليهم السلام وأتباعهم هم جزء من أُمّة التوحيد، ودعوة الإسلام هي امتداد لدعوتهم، والمسلمون هم أحق الناس بأنبياء الله ورُسُله وميراثهم.. فرصيد الأنبياء هو رصيدنا، وتجربتهم هي تجربتنا، وتاريخهم هو تاريخنا، والشرعية التي أعطاها الله للأنبياء وأتباعهم في هذه الأرض المباركة المقدسة، هي دلالة على شرعيتنا وحقّنا في هذه الأرض. فالمسألة في فهمنا ليست متعلقة بالجنس والنسل والقوم، وإنّما باتباع المنهج.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق