واصل نبي الله إبراهيم (ع) رحلته الطويلة عبر أرض بابل والشام وجزيرة العرب.. وراح يطوي فصول من الزمن، ويتخطّى السهول، والهضاب، والوديان، ليحل في نهاية المطاف في أرض الميعاد في مكّة المكّرمة.. وهو يصطحب طلائع الحياة والايمان إلى ربوع هذه الارض.. زوجته هاجر، وابنه إسماعيل (ع).
ويحلّ إبراهيم (ع) ومعه هاجر وإسماعيل في أرض السلام.. في البلد الامن.. في الوادي الجديب، ويرمي إبراهيم ببصره.. عبر صحاري مكّة وجبالها.. كأنه يبحث عن حدث جديد سيولد على هذه الارض.. ويصمت قلب إبراهيم (ع) الكبير ليطوي سرّه وقدره.. ويرمق إبراهيم السماء بعينيه.. ويرفع بالضراعة والخشوع يديه:
(ربّنا إنِّي أسْكَنْتُ مِنْ ذرِّيّتي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقيموا الصَّلاةَ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوي إلَيْهِمْ وارْزُقهم مِنَ الثَّمَراتِ لَعلَّهُم يَشْكُرون )(إبراهيم/37).
ويقفل إبراهيم (ع) راجعاً.. وتصمت هاجر.. ويتلفت إسماعيل من حوله.. ويسكن إلى صمت الصحراء، ويطلب الماء فلا يجد.. ويشتد به العطش ويفحص الوليد رمال الوادي بقدميه الصغيرتين.. وعلى شفتيه ذبول العطش والجفاف، وفي قلبه رواء الحب والايمان وفي عينيه امتداد الامل الكبير، وفي جنبيه رجاء المستقبل.. المستقبل الذي بات يبشر بانبثاق أمة ستزرع في قلب الوادي الجديب شجرة الايمان والحياة.. ويستمر الوليد يلاعب الارض بقدميه، ويداعب وجه الرمال بأصابعه، يداعبها بصفاء الانبياء، وحبّ القديسين.. وكأنّه يغمز ثدي الارض ـ اُمّ الانسان الرؤوم ـ علّها تسكب بين شفتيه قطرة الماء والرواء.. ويرق قلبها العطوف حناناً على ابن مجدها العظيم.. وتستجيب لرغبته مازال مستجيباً لنداء الله.. فتتفجر الارض ـ حناناً من لدن بارئها ـ عيناً تروي عطش الصحراء، وآيات تبشر بمجد الوليد العظيم، وتذهل هاجر، أفي يقظة هي أم في حلم جميل.. ؟؟ وتتقرب نحو الماء، وتغرف منه بكفيها، ويشرب إسماعيل.. ويظل الوليد يصاحب (زمزم)، ويمرح جذلان على ضفافها في أرض الرسالات ليشيد في ربوعها مع أبيه كعبة تهفو إليها قلوب الموحدين، وقبلة تتوجه نحوها أنظار المسلمين، ومزار يحج إليه القاصدون...
ويعود إبراهيم (ع) يعود ليلتقي باسماعيل، وليبدأ فصولاً جديدة من تاريخ الايمان على أرض المقدسات وليبدأ مع ابنه، يبني بيتاً للعبادة. ويستمر إبراهيم في البناء، ويرفع القواعد من البيت، ويتعالى صرح البناء، ويشمخ رمز التوحيد في قلب الجزيرة الجرداء.. كعبة تهفو إليها النفوس، ومآباً تطوف حوله القلوب:
(وإذْ بوّأنا لابْراهِـيمَ مَكانَ البَيْتِ أَنْ لاتُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتيَ لِلطَائِفينَ والقَائِمِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ وأَذِّنْ فِي النَّاسِ بالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وعَلى كُلِّ ضَامِر يأتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق )(الحج/ 26 ـ 27).
ويكمل إبراهيم (ع) وابنه البناء:
(وإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْمَاعيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّميعُ العَليمُ * رَبَّنا واجْعَلْنَا مُسلِمَيْنِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمّةً مُسْلِمةً لَكَ وأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَينا إنَّك أَنتَ التوَّابُ الرَّحِيمُ )(البقرة/ 127 ـ 128).
ويضعان في رحاب مكة أول بيت وضع للناس، وضع للحج والعبادة، فكان قدساً مطهراً، إصطفاه ربه، فأضافه إليه، فقال مخاطباً إبراهيم (ع):
(... وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلْطّائِفينَ والقَائِمينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ )(الحج/ 26).
فصار البيت، بيت الله.. رمز الايمان، وموضع العبادة والتقديس، ومحل القصد والحج، وبيت الضيافة، والوفادة على الله.. فالذي يحل في فنائه كأنما يحل في رحاب الله، وحاجّه قاصد، يطوف حول ظل العرش في أرض الله..
وراح إبراهيم (ع) يرعى البيت، ويعمره بالعبادة والتقديس، ويرمقه بالاجلال والتعظيم، وهو يلمح مجد هذا الرمز الرفيع، وينتظر أن يكون له شأن عظيم، شأن لهذا البيت الصخري المتواضع.. متواضع في فنّه وعمارته، بسيط في أناقته وفخامته.. هذا البيت الطافي على بحر الرمال، بين أمواج الجبال، ومتراكم الكثبان، يحوطه المحال والجدب في كل مكان، فلا الماء يجري ولا الارض تعشب، ولا الربيع يطل، ولا قوافل الركبان تقصده.. يحتويه الوادي الجديب، ويحيطه امتداد من القفر والبيد، فما كان أحد يحسب لتلك البقاع الخالية من مظاهر الرغد والحضارة أي حساب.. ولكن:
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ )(القصص/ 68).
وإذا بالمجد يظلل أرض الحصى والرمال.. وإذا بوديان مكّة الجرداء تشمخ بأنفها على وديان الخصب والربيع والرواء.. ولم لا ... ؟؟
أليست هي الارض التي أختارها الله لتكون منطلقاً لرسالة إبراهيم؟ .. داعية الايمان والسائح في الارض هياماً برسالة التوحيد، وفراراً من ظلم الطواغيت إلى عدل الله ومن خرافة الوثنية إلى مدرسة العقل السديد «الدين» .
أليست هي الارض التي آمنت بأهداف أبي الانبياء بعد أن استكبرت عليه وديان الخصب والعمران في أرض بابل والشام.
أليست هي الارض التي ستخصب النفوس بالايمان، وتملا الارض بالحضارة والعمران، اختارها الله لابراهيم (ع) ليضع الحجر الاساس في قلبها: كعبة للايمان، وبيتاً للعبادة، ومتوجهاً للقلوب.
أليست هي الارض التي شاء الله أن تكون حرماً آمناً، وداراً للسلام؟
انّها كذلك..
وهكذا شاء الله أن تكون، وأن يخصب هذا الوادي الجديب بأغراس الايمان، ويزدحم هذا الرحاب القفر بقلوب الوالهين، ويزدحم هذا المكان المنقطع بمناكب الطائفين، ويضج وادي الصمت بنداء الملبِّين.. أراد الله كل ذلك فأوحى إلى أبي الانبياء إبراهيم (ع):
(وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بالحَجِّ يأتوكَ رِجالاً وَعَلى كلِّ ضامر يأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق)(الحج/ 27).
وينطلق إبراهيم (ع) بالنداء، وتستجيب القلوب المؤمنة، وتتسابق قوافل الحجاج سعياً وتلبية، جيلاً بعد جيل... وصوت إبراهيم (ع) مازال يتردد في مسامع الابناء ترفعه على أكتافها أمواج الاثير، نداء خالداً، وصوتاً حبيباً، تصغي إليه النفوس بشوق وسكينة، وتهفو إليه القلوب بحب وحرارة.. إنّه نداء أبينا إبراهيم(ع) ما زال يتردّد في قلوب الموحدين، وما زالوا يجيبونه بكل شوق واجلال، متوجهين إلى الله سبحانه:
( لَبَّيْكَ اللّهُمَّ لَبَّيْك ..
لبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْك ..
إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْك ..
لاَ شَرِيكَ لَك لَبَّيْك ) ..
وهكذا صار الحج فريضة من يوم أطلق النداء أبو الانبياء إبراهيم (ع).. وجاء محمّد (ص) بالاسلام، فكان الحج أحد أركان دعوته، وكانت الكعبة قبلته ووجهته، فتوجه القرآن إلى المسلمين ببلاغه الواضح، وندائه الصريح :
(... وَلِلّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيهِ سَبيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمينَ )(آل عمران/97).
وجاء في الرواية عن أهل البيت (ع): «أنّ الكعبة شَكَت إلى الله عزّ وجلّ في الفترة بين عيسى ومحمّد (ص) فقالت: يا ربِّ ما لي قلَّ زوّاري: ما لي قلَّ عوّادي؟ فأوحى الله إليها أنِّي منزل نوراً جديداً على قوم يحنون إليك كما تحنّ الانعام إلى أولادها».
يعنى اُمّة محمّد (ص)، هذه الاُمّة التي قدّست الحج، وعمّرت البيت بالتقديس والعبادة، فكان مفهومها عن الحج ما عبر عنه الامام علي (ع) بقوله: «وفرض عليكم حجّ بيته الحرام، الذي جعله قبلة للانام، يردونه ورود الانعام، ويألهون إليه ولوه الحمام، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته وإذعانهم لعزّته، واختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق