قد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن رمضان مشكاة من الخير يصعب إحصاؤها، وقد يستحيل إدراك دروسها، ومعانيها، وعبرها، وهذا ما يجعل عطاءها المتجدد المتوالد دليلاً قوياً على إعجاز هذا الدين.
وتحت هذا العنوان سأتناول – بعون الله – ما يفتح الله به من كنوز مشكاة شهر رمضان: (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...) (البقرة/ 185).
إنّ مما اختص الله به شهر رمضان أن جعله شهر الصيام، الصيام عن كل ما يشد الإنسان إلى الأرض، ويرقى به إلى الملأ الأعلى:
- صيام "حسيّ" يروِّض به المؤمن شهوات البطن والفرج، وسائر أعضاء البدن من سمع وبصر وشمّ وحسّ، لتحقيق عبودية المخلوق للخالق في كل جوانب خَلقه، وتفصيلات صنعه.
- وصيام "نفسيّ" يرتَقي من خلاله المسلم في مدارج السالكين، ومصاعد الصالحين، فتخبو الشهوات، وتضعف النزوات، فيصحو من غفلته، ويستدرك ما فات، ويستشرف ما هو آت، قبل ألا ينفع الندم: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨)إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 88-89).
- وفي ضوء كل ذلك نفهم قوله (ص): "يا معشر الشباب من إستطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنّه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنّه له وجاء" أي وقاية (رواه البخاري ومسلم)، وكذلك في قوله (ص): "إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيّقوا مجاريه بالجوع" (متفق عليه).
- شهر التقوى:
ومن فضائل رمضان أنّه يُعين على البر والتقوى، والتحلي بهما، مصداقاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).
فالتقوى ثمرة مجاهدة النفس وتزكيتها، وحالةٌ من حالات الإمتثال لأمر الله تعالى وطاعته، وإجتناب نواهيه ومساخطه.
ودرجة التقوى لا يبلغها إلا من غالب هواه فغلبه، وصارع شيطانه فصرعه، مصداقاً لقوله (ص): "لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يُقذف في النار".
وفضيلة التقوى لا تدانيها فضيلة من تحقيق مخافة الله، وتحصيل مراقبته، وبلوغ منزلة السداد في الرأي، والرشاد في السلوك، والإستقامة في العمل، وصدق الشاعر إذ يقول:
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى **** فأوّل ما يقضي عليه اجتهاده
فالمتقون هم المعنيّون بالخروج من كل ضيق، والخلاص من كل عسر، مصداقاً لقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق/ 2-3).
والمتقون هم المعنيون بصلاح الحال وراحة البال، ويُسر الأعمال، مصداقاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 70-71).
والمتقون هم المزوّدون بأسباب السعادة في الدنيا والآخرة، والمعنيّون بقوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 197).
والمتقون هم الفائزون بنعيم الآخرة، وهم المعنيّون بعشرات الآيات القرآنية التي تصف حالهم ومقامهم الكريم يوم القيامة على مثل قوله تعالى: (وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (الزخرف/ 35)، وقوله: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (القلم/ 34)، وقوله: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (ق/ 31).
فإذا كان الصوم مدرسة للتقوى، والتقوى طريقاً إلى نعيم الآخرة، فقد أصبح رمضان "قاربنا" إلى جنات الخلد، و"مركبنا" إلى ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فيا داعي الخير أقبل.. ويا داعي الشر أقصر.
- شهر الرحمة:
ومن خصائص رمضان أنّه شهر الرحمة.. الرحمة التي هي صفة من صفات الله تعالى، وهي واحدة من أسمائه الحسنى، بل هي في مقدمة هذه الأسماء: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (الحشر/ 22).
إنّها الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء.. فقد أخرج الترمذي قال: "إنّ الله حين خلق الخلق كتب بيده على نفسه: إن رحمتي غلبت غضبي".
إنّها الرحمة التي من خلالها تتراحم الخلائق جمعاء.. يتراحم الآباء والأبناء، والإخوة والأشقاء، والأصحاب والأصدقاء.. وصدق رسول الله (ص) إذ يقول: "إنّ الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كلّ رحمة طباقُ ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فيها تعطف الوالدة على ولدها، والوحشُ والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة".
ثمّ إن قيمة الرحمة التي إختص بها رمضان جعلها تتصدر بحسب الأولوية الزمنية أيام هذا الشهر الكريم، إذ يقول الرسول (ص): "رمضان أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار".
بل إنّ الخطاب الرباني القائل: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، ليبوئ صفة الرحمة موقعاً متقدماً لا تسبقها إليه صفة أخرى، وليجعلها الصفة الغالية لدعوة الإسلام، ورسالة محمد (ص).
فما أحوجنا – نحن المسلمين – إلى أن نتصف بهذه الصفة المحمدية، فنتراحم فيما بيننا، لنكون جديرين بالانتساب إلى هذا الدين، ومعنيين بخطاب رب العالمين: (مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...) (الفتح/ 29).
وما أحوجنا إلى التحلي بهذه الصفة الكريمة ونحن ندعو الناس إلى الإسلام مستذكرين قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...) (آل عمران/ 159).
ما أحوج الساحة الإسلامية إلى أن تمحو من أذهان العالم الصورة غير الصحيحة والقبيحة عن الإسلام، وأنّه منهج إرهاب وتطرف ووحشية من خلال الخطاب والأداء والممارسة الحضارية، مستذكرين قول الرسول (ص): "إنّ الله عزّ وجلّ رفيقٌ يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف"، وقولته: "من أعطي حظّه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرم حظه من الرفق فقد حرم حظّه من الخير".
ولم تقتصر رحمة الإسلام على الإنسان وإنما تجاوزته إلى البهيمة والحيوان، وإلى كلّ ذي روح، فهذا رسول الله (ص) يمر ببعير قد لحق ظهرُه ببطنه، فقال: "اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة ". وفي رواية: "أن بغيّة من بغايا بني إسرائيل رأت كلباً كاد يقتله العطش، فنزعت (مَوْقها) – أي خفها – فاستقت له به، فسقته إياه، فغُفر لها به".
وفي أخرى أن رسول الله (ص) قال: "دخلت امرأةٌ النار في هرّة ربطتها، فلم تُطعمها ولم تدعها تأكل من حشائش الأرض".
وأخرج أبو داود قال: "أقبل رجلٌ على رسول الله فقال: يا رسول الله، إني لما رأيتك أقبلتُ، فمررت بغيضة شجر، فسمعت فيها أصوات فراخ طائر، فأخذتهنّ، فوضعتهنّ في كسائي، فجاءت أمهنّ، فاستدارت على رأسي، فكشفت لها عنهنّ، فوقعت عليهنّ، فلففتها معهن بكسائي فهن أولاء معي، فقال: ضعهنّ، ففعلت، فأبت أمهنّ إلا لزومهنّ، فقال رسول الله (ص) لأصحابه: "أتعجبون لرحم أم الفراخ على فراخها؟"، قالوا: نعم، قال: "والذي بعثني بالحق، لله أرحم بعباده من أم الفراخ بفراخها، ارجع بهنّ حتى تضعهن من حيث أخذتهن، وأمهن معهن، فرجع بهن".
- شهرة المغفرة:
ومن عطاءات رمضان وأعطياته، أنّه شهر المغفرة، فإقبال المسلم على الله في هذا الشهر، ومجانبته لأهوائه، ومجاهدته لنفسه، وما يساعد على ذلك من تصفيد للشياطين، وإضعاف لعوامل الشر، وتقوية لعوامل الخير، يجعل باب التوبة مفتوحاً على مصراعيه، لا يحتاج الصائم فيها إلى كبير عناء ليبلغ الطُّهر المنشود، والغفران المقصود.
فإذا كانت أبواب التوبة مشرعة بالإطلاق – في رمضان وفي غير رمضان – مصداقاً لقوله (ص): "إنّ الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها"، فكيف بها في رمضان؟
والمؤكد أنّ المسؤولية الشرعية تتعاظم في شهر رمضان، لما تشكّله أجواؤه من مناخات طاهرة نظيفة تعين على كلّ خير، وتبعد عن كلّ شر، وتسقط كلّ ذرائع الانحراف.
ومن سياق الأحاديث النبوية الشريفة يتبيّن لنا مدى فاعلية شهر رمضان في توفير شروط التوبة، وتهيئة موجبات المغفرة، وإلى هذا المعنى كانت إشارة الرسول (ص): "إنّ الله عزّ وجلّ يغفر في أوّل ليلة من شهر رمضان لكل أهل هذه القبلة، وأشار بيده إليها"، فجعل رجل يهز رأسه ويقول: "بخ بخ"، فقال له رسول الله (ص): "يا فلان ضاق بك صدرك؟" قال: لا، ولكن ذكرت المنافق، فقال: "إنّ المنافق هو كافر، وليس لكافر من ذلك شيء".
فلنقبل أيها الإخوة الصائمون على الله في شهر رمضان وفي كلّ شهر، ولنسأله تعالى الرحمة والمغفرة، ملبين نداءه الكريم:
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الزمر/ 53-55).
*كاتب لبناني
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق