أكثر المواقف التي أمر بها شخصياً في لقاءات أولياء الأمور في المدرسة. هي تلك التي يأتيني فيها ولي أمر ويسرد عليَّ مشاكل وسلبيات ابنه، فكل ما أفعله في هذا الوقت هو الإستماع إليه إلى أن ينتهي، لأبدأ بعدها بطرح بعض الأسئلة التي أكتشف من خلالها أنّ (الأب/ الأُم) لا يعرف بالتحديد ماذا يريد لابنه! وما هذه المشاكل التي يعاني منها أبنائنا إلّا نتيجة لعدم وضوح الهدف الصحيح من تربية الأبناء!
فأنت كمربٍ في بيتك مع أبنائك.. أو كمعلم مع طلابك، هل حددت الهدف أو النتيجة التي تريد الوصول إليها وأنت تربي المجموعة التي تدور حولك؟! كثير من المربين يتحركون في تربيتهم بدائرة مفرغة.. لم ولن يصلوا لنتيجة محددة أبداً، وهؤلاء حالهم كحال قصة (أليس في بلاد العجائب)، عندما وجدت قطاً يقف بين طريقين.. فسألته: أي الطريقين أسلك؟
فأجابها بسؤال: إن ذلك يعتمد على المكان الذي تريدين الذهاب إليه!
فقالت: لا أعلم أين أذهب!
فقال لها: إذاً لا يهم أي الطريقين تسلكين!!
فعدم تحديد غايتك التي تريد الوصول إليها في عملية بناء شخصيات أبنائك، وما هي الصفات والقيم التي تريد غرسها فيهم، ذلك يعني أنك لن تصل إلى شيء، بل أنت بهذا التصرف تجعل أبناءك عُرضة وصيداً سهلاً لمغريات خطيرة كثيرة من أصحاب سوء يتربصون بهم وإعلام وأفكار هدامة.
وهناك صنف آخر من المربين يقومون بتحديد أهدافهم، ورؤيتهم واضحة بالشخصية التي يريدون تكوينها للمستقبل، ولكنها لا تتعدى أن يكون المتربي طبيباً أو مهندساً، أو أن يهيؤه على حرفة تتميز بها عائلته لكي يمتهنها عندما يكبر، وهذا التوجه من الآباء ليس خطأً بالمجمل، بل هو مطلب مهم، لكن الخطأ فيه يكمن في أن تجعله هدفاً رئيساً تربي من أجله، فهذه الأمور لا تتعدى كونها وسائل تعين الإنسان للوصول لأهدافه الرئيسية في الحياة والتي يجب أن لا تخرج عن رضا الله تبارك وتعالى.
وفي ذلك يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: "إنّ صناعة التعليم هي أشرف الصناعات التي يستطيع الإنسان أن يحترفها، وإنّ الغرض من التربية هي الفضيلة والتقرب من الله تعالى".
وحتى نستوضح أكثر المقصد من العملية التربوية لأبنائنا أضع لكم تعريفاً جميلاً للتربية للدكتور محمد منير يبين لنا ما هو الهدف منها فيقول:
"التربية في الإسلام تعني بلوغ الكمال بالتدريج ويقصد بالكمال هنا كمال الجسم والعقل والخُلُق، لأنّ الإنسان هو موضوع التربية".
ويزيد في شرحه فيقول:
"تستهدف (أي التربية) مساعدة الفرد على تحقيق ذاته وتنمية قدراته وإمكاناته وتزويده بالمهارات المعرفية والسلوكية والعملية التي تمكنه من أن يحيا حياة كريمة بعيدة عن الجهل وشبح الفقر وإهدار القيمة والكرامة الإنسانية".
بعد هذا التعريف نجد أنّ الموضوع أكبر من أن نقوم بتربية أبنائنا من دون وضع أهداف سليمة للشخصية التي نريد تكوينها للمستقبل لتكون أداة صالحة ومؤثرة في المجتمع، وأيضاً يتبين لنا أنّ الموضوع أكبر بكثير من أن نجعل همّنا في تربية من حولنا أن يكون مهندساً.. أو طبيباً.. أو أي مهنة أخرى.
الأمر يتعدى ذلك، فالتربية أسمى.. فهي تدخل في صلب الإنسان في تربية عقله وتدريبه؛ كيف يفكر ويتخذ قراراً، وكيف يستطيع حل مشاكله بنفسه، وفي تربية قلبه بأن يعرف أنّ الحب الأوّل يجب أن يكون لله تعالى ثمّ للرسول (ص) ثمّ للوالدين، وأن يعرف كيف يدير مشاعره وأحاسيسه لأ أن تديره، وأيضاً تربية سلوكياته بتأدُّبه في تصرفاته مع الخالق بأن يراقبه ويتقيه في سره وعلنه، ومع الخلق بأن يحترم الكبير ويعطف على الصغير ويحترم الآراء ويتعايش مع الجميع من يوافقه ومن يخالفه، فعندما تطبق ذلك وتلامس وتُؤثر في عقول وقلوب الأبناء حينها يمكن أن تسير بشكل صحيح.. هذه هي التربية!
وحتى أُضفي الجانب العملي لهذه القطعة سأضع بين يديك مجموعة من الأسئلة، ستساعدك بشكل فعّال في تحديد أهداف صحيحة تقوم على أساسها بتربية أبنائك:
خُماسية الشخصية الفاعلة:
1- ما هي المعتقدات والعبادات التي ألزم فيها الدين الحنيف أن تتوفر في شخصية كلّ مسلم؟
2- "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ما هي هذه الأخلاق التي بُعث من أجلها النبيّ (ص) والتي يجب أن تكون في سلوكيات أبنائك؟
3- اكتب أهم المهارات المعرفية والعملية التي يجب أن تعلمها أبناءك ليحسنوا التصرف في هذا الزمن.
4- ما هي أبرز المشاكل السلوكية التي يقع فيها من هم في عمر المراهقة؟
5- برأيك، ما هي أكبر المشاكل الموجودة في المجتمع والتي قد تساهم في تدمير أفكار وسلوكيات أبنائك؟
إجابتك على هذه الأسئلة الخمسة (خماسية الشخصية الفاعلة) ستساعدك في تحديد الهدف الأساسي من العملية التربوية لأبنائك، وأيضاً ستسهل عليك في تحديد أبرز القيم والمهارات التي يجب أن تكون موجودة في كلّ شخصية ناجحة ومؤثرة.
كلّ ما عليك فعله الآن أن تجمع إجابات الأسئلة الثلاث الأولى فهي تمثل الشخصية الفاعلة.. ثمّ تقابلها بإجابتي السؤالين الرابع والخامس والذين يمثلان المشاكل التي ستواجه هذه الشخصية خلال أداء عملها اليومي، ومن ثمّ تقوم بتربية ابنك على مواجهتها والتغلب عليها من خلال الصفات والمهارات التي استخرجتها من الأسئلة الثلاث الأولى.
· انتبه!
لا خير ولا نفع في تربية تجعل صاحبها بعيداً عن العملية الإنتاجية للمجتمع والجماعة والمشاركة في صناعة حضارة الدولة والدين، فليس الهدف من التربية أن نعزل أبناءنا عن المجتمع خوفاً عليهم من أن يقعوا في الخطأ، بل الهدف منها أن نعلّمهم كيف يعيشون في المجتمع والواقع بإيجابياته وسلبياته وأن نعلّمهم كيف يتصرفون عندما يقعون في الخطأ!
يقول الدكتور جاسم سلطان:
"إننا نريد أن نخرج جيلاً من القادة وليس جيلاً من الأطفال، جيلاً يبادر وليس ينتظر، جيلاً يوحد الأُمّة وليس جيلاً يتقوقع على منظمته، جيلاً شاباً وليس شباباً شاخ بروحه وعزيمته، ففقد أهم ما يميز الشباب. إنّ نزع الشعور باستقلال الجيل تعني التبلد الذهني وجمود العمل".
هذه رؤية واضحة لشخصية نريد من كلّ مربٍ أن يعمل من أجل تكوينها حتى تكون أداة فاعلة مستقلة ومؤثرة للمجتمع الذي يعيش فيه، ولن نستطيع الوصول لها إذا كان أساس طريقة تربيتنا لأبنائنا قائمة على الإلزام والصراخ والتلقين، بل وسيلتها الصحية للوصول لها هي في مقولة حسن البنا – رحمه الله – عندما قال: علموه (أي الجيل):
1- على استقلال النفس والقلب:
ويقصد بها حبّ الله تبارك وتعالى ومراقبته والسير على أوامره والإبتعاد عن نواهيه جلّ وعلا، وحب الحقيقة والبحث عنها بكل الطرق والوسائل، لا أن نربّيهم على اتباع الأشخاص دون النظر والبحث في أفكارهم.
2- على استقلال الفكر والعقل:
ويقصد بها استقلالهم من الأهواء وحظوظ النفس واتباع المصلحة الشخصية، وأن يكون صاحب رأي مع الحقيقة أينما كانت، يأخذها حتى لو كانت من الغريب البعيد.
3- استقلال الجهد والعمل:
ويقصد بها أن لا يتأثر المتربي بمن حوله فتجده يعمل ويتحرك إذا تحركوا ويسكن إذا سكنوا، بل يجب أن نربيه على المبادرة والعمل حتى في الظروف والأوقات التي يجلس ويتذمر بها الباقي ممن حوله.
وفي موضع آخر يرى حسن البنا – رحمه الله – أنّ التربية تسعى لإيجاد إنسان فيه عشر صفات أساسية هي: "أن يكون قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادراً على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهداً لنفسه، منظماً في شؤونه، حريصاً على وقته، نافعاً لغيره".. وحتى تستطيع أيها المربي الوصول لهذه الصفات العشر التي اقترحها، عليك أن تعرف أنّ دور التربية يتركّز حول أمرين كما وضّحه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه هما:
1- تخليص الإنسان من الأوهام والمخاوف التي تتحكم فيه وتقيّد حريته.
2- والأمر الثاني في تعزيز إرادة الإثبات وإرادة النمو وإرادة المقدرة الذاتية في المتربين حتى يكونوا أهلاً لهذه الصفات العظيمة.
نعم.. انتبه!
إنّ طريق العمل لتكوين هذه الشخصية لن يكون مفروشاً بالورود، بل ستجده كثير الأشواك والعقبات، لكنّ المحصلة النهائية تستحق منا كمربين أن نتجاوز هذه العقبات والأشواك بروح جميلة وسعيدة لأنّ النتيجة ستكون مرضية لك في الدنيا عندما ترى أبناءك قادةً مؤثرين مصلحين لمن حولهم، وأيضاً في الآخرة، عندما تجد هذا العمل في صحائفك يوم تلقى الرب جلّ وعلا.
الآن... وبعد أن اطلعت على أهمية تحديد الهدف الصحيح أثناء تربية من حولك، عليك أيها المربي وكما يقول الدكتور طه عبدالرّحمن: "يجب أن لا ينفك علمك عن عملك".
المصدر: كتاب المُرَبِّي.. كيف نربي في الزمن الحديث؟ (12 قاعدة مبسطة ومبتكرة) للكاتب عبدالمحسن العصفور
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق