• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

من ذاكرة عاشوراء.. مأساة واقعة الطف

السيد محمد صادق بحر العلوم*

من ذاكرة عاشوراء.. مأساة واقعة الطف

◄في صباح العاشر من شهر محرم الحرام سنة 61 هجرية، قامت معركة حامية الوطيس في ساحة كربلاء، بين جيشين: جيش بني هاشم وأصحابهم، بقيادة الإمام الحسين بن عليّ – عليهم السلام –، وأهل بيته واصحابه، وعددهم السبعين.. في مقابل جيش بني أمية وبقيادة عمر بن سعد، وبعدد أقل الروايات تقول عشرة آلاف مقاتل.

في نهار شديد الحرارة، في الوقت الذي يقف الجيش الأموي مانعاً وصول الماء إلى معسكر الإمام الحسين (ع) لأكثر من يوم، حتى بات جميع من في معسكر الإمام يعاني شدة العطش في حين سلطت أشعة الشمس حرارتها، فعانى الجميع هذا الإجراء القاسي والهادف إلى الضغط على الإمام الحسين (ع) بالتسليم، والطاعة للحكم الأموي، الذي فقد كل القيم الإنسانية، وفكره الشاغل ارغام الناس إلى طاعة حكمه، مهما كلف الأمر.

الإمام الحسين (ع) يوضح هدفه من ثورته منذ لحظتها الأولى حين يودع فيها أهل بيته وعشيرته ليترك مدينة جده المصطفى (ص) متوجهاً إلى كربلاء حيث مكان استشهاده قائلاً:

"أني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وانّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي محمد، وأبي عليّ بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين".

هذا هو هدف الإمام الحسين (ع) من نهضته، أما العدو الأموي في الشام، يزيد بن معاوية، والذي اعلن هدفه منذ تسلط على السلطة التي تسلمها بعد التهديد رغم افتقاره التام إلى مقومات تلك السلطة، حيث وضع أمام عينيه، الحكم هو الغاية الأساسية في نهج الأمويين، وهذا ما وضح في رسالته إلى واليه في المدينة عندما طلب أن يأخذ البيعة من الحسين (ع) وبعض أتباعه من أصحاب الرسول (ص)، اخذاً شديداً ليس فيه رخصة، فمن يأبى عليك منهم فأضرب عنقه، وابعث إليّ برأسه.

هدفان، عنف ولا عنف، سلم ولا سلم، خير وشر، انّه صراع بين توجهين: حياة وموت، ومبدأ الإمام الحسين (ع)، تخليص أمّة الإسلام من حاكم لا يعرف إلا نفسه ولعبه، ومصلح جُل تفكيره أن ينقذ الإنسان من الاستعباد والظلم، والعيش بكرامة.

ساحة كربلاء يتنافس على أرضها فريقان.. فريق يدعو للحق وهم قلة في عددهم، وفريق يدعو للباطل وهم كثرة.

يمثل الباطل جيش يزيد بن معاوية الأموي والذي يعلن عن مبادئه قطع المياه عن جيش الإمام الحسين ليموت وكل من معه عطشى، مبدأ الطغاة، وصوت الجاهلية البغيض، وبصوت عالٍ، اقتلوا الحسين وأهل بيته، وأصحابه، وأبيدوهم حتى الأطفال والنساء، واحرقوا عليهم خيامهم لتصهرهم رمضاء كربلاء، ولنشفي بهم صدورنا، ولنحصل على جائزة أميرنا الأموي.

والإمام الحسين (ع) وهو الذي يدعو للحقّ، ويشهد قتل أهله وأصحابه، لم يبق له من تلك الصفوة إلا – طفل رضيع لم يتجاوز الأشهر الستة من طفولته – أخذ به الظمأ، وقد جف لبن أمه من العطش، حملته أمّه إلى ساحة الوغى، ووضعته في حضن أبيه الحسين، وهو يعاني سعير الموت من ظمأ، يخمد على شفاه ذابلة، وجذوة الطفولة البريئة يغفو شاحباً على وجنتين أتبعهما رهج الموت، وبين أنين جراح الأب المظلوم، يرفع الإمام الحسين طفله على كفين مجهدتين أمام الجيش الأموي المقاتل، ويصيح بضعيف صوته، يا أعداء الله، با جيش بني أمية إن كان للكبار ذنب تقتلوهم، فما ذنب هذا الرضيع، خذوه واسقوه جرعة من الماء قبل أن يفارق الحياة!

فيختلف الجيش الأموي فيما بينه، بعض يوافق وآخر يعترض قائلاً: إن كان الكبار لم يبايعوا يزيداً! فما ذنب هذا الرضيع؟

وآخر ينادي اقتلوا أهل هذا البيت كبيرهم وصغيرهم لتخلوا الأرض لبني عبد شمس.

ويحملق عمر بن سعد في جيشه واختلافهم فيما بينهم، وقبل أن يفقد سيطرته يشير إلى أحد قواد جيشه وهو حرملة بن كاهلة قائلاً له: حرملة اقطع نزاع القوم واقتل الرضيع، وعلى فوره سدّد سهماً إلى قربة الطفل، فذبحه من الوريد إلى الوريد، تاركاً الرضيع يرفرف بين يدي والده الإمام الحسين (ع) والدم منفجراً يشخب من وريده، وما هي الا لحظات وذبل، وتجمد، فيحمله الأب المظلوم إلى معسكره، لتراه أمه مذبوحاً، فتصاب بالذعر والذهول.

إنّ هذه المأساة – مأساة الطفل الرضيع – لها امتيازها الخاص عن شهداء الطف وهي:

-       قتل الطفل تمثل غاية القسوة الدموية في الجيش الأموي، وتؤكد بذلك الحاح هذا الجيش في القضاء على أهل البيت – عليهم السلام – كبيرهم وصغيرهم وهذا ما يصور لنا خوف الأمويين من أهل البيت – عليهم السلام – لأنهم أحق بالسلطة من غيرهم.

-       لم يؤثر هذا الموقف في عقيدة الإمام الحسين (ع) وهو يرى طفله متضرجاً بدمائه رغم – أبوته – الا انّه عبر عن إثراء كبير للنهضة الحسينية الاصلاحية في تعديل مسار التحرك الإسلامي نحو التصحيح، فقد كان الكسب الإيجابي متمثلاً بالآتي:

إنّه – عليهم السلام – في سبيل نهضته الخالدة، قدم بكل بطولة القرابين بما فيهم الصغار لتروى بدمائها أرض كربلاء، لتبقى الذكرى حية على مرّ الزمن.

وقد كشف – عليه السلام – بهذا المبدأ التضحوي بربرية الأمويين، وتهالكهم على السلطة، في مقابل تضحيات الإمام الحسين عليه السلام في سبيل الإسلام إيماناً منه لإحياء دين جده المصطفى (ص).

ومن هذا المنطلق تبقى ثورة الإمام الحسين (ع) – أبو الأحرار – مع التأريخ خالدة، وتتجدد كلما مرّ عليها الزمن.

وستبقى تلك النهضة رمزاً للحركات التصحيحية، ورمزاً للحق ضد الباطل.

فسلام عليك يا أبا الشهداء، يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حيا.

 

*كاتب من أمريكا

 

المصدر: مجلة الغري/ العدد 11 لسنة 2002م

ارسال التعليق

Top