كلّ مولود جديد هو فضولي بطبعه، وهذا الفضول هو الذي يحث الطفل على التعلم المبكر. ولكن حتى يستمر هذا الفضول على وتيرته الإبداعية نفسها، يجب صقله وتهذيبه ورعايته. فعندما يشجع الأهل الطفل على البحث عن المعلومة، سيستمر في بحثه بنشاط ولهفة. أما إذا لم قد لا يواصل بحثه، أو على الأقل، قد لا يواصله بالحماسة واللهفة نفسيهما.
يتمنى معظم الأهل أن يكون أطفالهم، عندما يكبرون، مُحبّين للعلم والثقافة. علم يختلف اختلافاً كلياً عن الدراسة التي تنتهي بحصول الشخص على شهادة تُفرح الأهل والأقارب. وثقافة تحقق في جميع الأحوال، حياة أفضل للطفل في المستقبل. إنّ الأطفال الذين يطوّرون حبّ العلم في سن مبكرة، يستمرون على النهج نفسه طوال حياتهم. لذا، يتمكنون من تحقيق نجاحات في معظم الحقول أكثر من أندادهم الذين لا يُظهرون رغبة في العلم، ويظهرون اهتماماً أكثر منهم، ويَبدون أسعد منهم.
والأهل هم مفتاح نجاح الطفل. فتشجيع الأهل الطفل على حبّ العلم أمر ضروري وحيوي له، لأنّهم بتشجيعه يزرعون الثقة والتصميم داخله. وهذان العاملان أكثر ما يحتاج إليهما الطفل لبذل الجهد في تحصيل العلم وتثقيف ذاته.
والعملية ليست معقدة كما يعتقد البعض، لكنّها تحتاج إلى التصميم، وتكريس الوقت اللازم وإلى المثابرة. ولأنّ الأطفال مسؤولية الأهل، عليهم أن يتحملوا مسؤولية تعليمهم وتثقيفهم، وألّا يسمحوا لأحد غيرهم بأن يقوم بهذه المهمة عنهم، وأن يعتنوا بأطفالهم وأن يؤثّروا فيهم وأن يحيطوهم برعايتهم وأن يخصصوا الوقت اللازم لهم وأن يعلّموهم على أكمل وجه. إذ من المهم أن يعمل الأهل على تحقيق هذا الهدف أكثر من أي هدف آخر.
عندما يولد الطفل، يكون دماغه نشطاً، وتكون قُدراته على التعلُّم سريعة وفعّالة. وقد دلّت جميع الدراسات والتجارب على أن تشجيع الطفل على العلم في سن مبكرة، يؤثر كثيراً في طريقة تطوير شخصيته. لذا، فإنّ الأنشطة التي تمارسها الأُم مع الطفل، مثل القراءة، التحدث إليه، ممارسة ألعاب الذكاء معه، الغناء له، تعليمه الرسم والغناء والرقص وكلّ أنواع الفنون... إلخ، منذ ولادته وحتى عمر العشر سنوات، تُنمّي حبّ العلم عنده وتساعده على تطوير قدراته التعليمية.
إنّ وجود الأهل في حياة أطفالهم مهم للغاية، لأنّ ما يتعلمه الطفل في السنوات الست الأولى من حياته يفوق ما يتعلمه في السنوات التالية. فدماغ الطفل يتطور باطّراد خلال هذه السنوات، فتتسع آفاقه ويصبح قادراً على تعلم المزيد من المعلومات، وعلى ربطها ببعضها بعضاً، وعلى إقامة الصداقات وبناء علاقات اجتماعية بسرعة مدهشة، في السنوات الثلاث الأولى من عمره. وعندما يصبح في عمر الست سنوات، تتضاعف قدراته وتزداد آفاقه اتّساعاً بحيث يضاهي الشخص البالغ. لذا، فإنّ مستقبل الطفل يُبنَى خلال هذه السنوات، ويلعب الأهل دوراً كبيراً في هذه العملية. ويجب أن يكون دورهم إيجابياً لا سلبياً. فقد دلّ العديد من الدراسات على أنّ الطفل الذي لا يتلقّى تشجيعاً من أهله على القراءة في سن مبكرة، فيكبر وهو لا يعرف لا القراءة ولا الكتابة. والمذهل في الأمر أنّ أعداد هؤلاء الأطفال في تزايد مستمر، والسبب دائماً الأهل.
يستطيع الأهل عمل الكثير لتشجيع الطفل ودعمه لتعلم المهارات الست التي يحتاج إليها قبل تعلمه القراءة، وهي: الحرف، الكلمة، مهارة السرد (أي تركيب الكلمات في جملة بسيطة)، التعرّف إلى الأحرف المطبوعة أو المكتوبة، الأصوات الكلامية ("فونولوجي"). فقد دلت الأبحاث أنّ الأطفال الذين يتعلمون هذه المهارات، يصبحون قادرين على القراءة قبل سنوات من دخول المدرسة، إضافة إلى تعلمهم أشياء كثيرة أخرى كالرسم، الخرطشة بالقلم، لفظ بعض الكلمات وهم لا يزالون صغاراً جدّاً. إنّ أفضل مساعدة يمكن أن يقدمها الأهل للطفل، قبل ذهابه إلى المدرسة، هي تعليمه مهارات مهمة حتى يصبح قارئاً جيِّداً، لأنّ الأهل يعرفون طفلهم جيداً، ويعرفون الأسلوب الذي يناسبه في التعلم، ويعرفون مزاجه والوقت الذي يحتاج إليه ليتعلم. في رأي الأديب أناتول فرانس أنّ "تسعة أعشار الثقافة تعتمد على التشجيع". وهذا ما يستطيع كلّ الأهل فعله إن وجدت لديهم الرغبة، وإن كانوا يهتمون بأطفالهم.
على الأُم أن تتحدث إلى طفلها كلّ يوم تُطلعه على ما يجري حوله، وعلى ما تفعله، وأن تكمله عن المشاعر، والأفكار، وعن الأخلاق والمبادئ.. إلخ. وإذا تحدّث طفلها إليها، عليها أن تضيف بعض التفاصيل إلى ما يقول، فيستمع إلى الأفكار الجديدة التي أضافتها ويتعرف إليها. مثلاً، إذا قال لها الطفل "سيارة كبيرة" يمكنها أن تضيف "نعم إنّها سيارة إطفاء حريق حمراء كبيرة". فكلما عرف الطفل كلمات أكثر، أصبح قارئاً أفضل. إنّ معرفة العديد من الكلمات وفهم معانيها يساعدان الطفل على فهم ما يقرأ.
على الأُم أن تتحدث، وتقرأ كلّ ما يقع تحت يدها من إعلانات، وكذلك الرقَع الموجودة على قطع الملابس وقوائم الطعام، وتلقي ذلك على مسامع طفلها، وأن تشير إلى الكلمة المكتوبة عند قراءتها. كما أنّ عليها أن تعطي طفلها كتاباً وتتركه يتصفحه، حتى لو لم يكن في إمكانه قراءته، وأن تتعمّد أن يراها طفلها هي تقرأ. إذا تآلف الطفل مع الكتاب والكلمة المكتوبة، فسيشعر بالراحة أثناء القراءة. إنّ الأطفال الذين يستمتعون بالقراءة يزدادون رغبة في العلم والثقافة.
على الأُم أن تستعين بالكتب والمجلات المصورة، وأن تختار قصة مصورة متسلسلة، ثمّ تشير إلى الصورة الأولى وتطرح سؤالاً حولها يستدعي الرد من الطفل، وعليها أيضاً أن تترك له المجال ليسرد القصة بطريقته وحسب وجهة نظره. بهذه الطريقة تنمّي الأُم قُدرات طفلها، ليس على القراءة فقط، بل على استعمال خياله في تصور تتابُع الأحداث، وعلى التأليف، وعلى الاستمتاع بوقته. عليها أن تساعده على ربط الأحداث في القصة مع تجاربه الشخصية وأن تستمع إليه باهتمام دائماً عندما يتحدث. إذا أصبح الطفل قادراً على سرد قصة، أو إعادة سردها، فهذا يساعده على فهم ما يقرأ.
إذا تعلّم الطفل أسماء الأحرف، والصوت الذي يصدر عن الحرف عند لفظه، فهذا يساعده على تمييز الأحرف وعلى لفظ الكلمات المكتوبة بشكل صحيح. إنّ معظم الأطفال الذين لا يُدركون الفرق في الأصوات الكلامية "فونولوجي"، يعانون مشاكل في القراءة. لذا، على الأُم أن تكتب اسم طفلها، وأسماء أفراد العائلة أو بعض الكلمات، بخط واضح ومقروءة – يُفضَّل أن تطبعها إذا كان الأمر مُتاحاً – وتطلب من طفلها قراءتها بصوت عالٍ. القراءة بصوت عالٍ تُبيّن ما إن كان لفظه صحيحاً. كما يمكنها الاستعانة بمربعات صغيرة مطبوع فوقها الأحرف بوضوح، ثمّ تسحب مربعاً وتطلب من طفلها قراءة الحرف المكتوب عليه. بهذه الطريقة، يستطيع الطفل الربط بين الكلمة والصوت الذي يصدره عند لفظه. من المهم أيضاً أن تصفق الأُم لطفلها كلما لفظ حرفاً أو كلمة بالطريقة الصحيحة، لأنّها بذلك تشجعه على القراءة وتغرس فيه حبّ العلم.
كلما أمضت الأُم وقتاً أطول مع طفلها، تعلّم أكثر. يمكن الاستفادة من الإجازة الصيفية في اصطحاب الأُم طفلها في جولات في المدينة التي تعيش فيها، فيتعلم من المحيط ويكتسب الخبرات، مع أنّها من المفروض أن تقوم الأُم بذلك طوال السنة وليس في الإجازة الصيفية فقط. ويجب أن تشارك الأُم طفلها في وضع الخطط لقضاء الوقت، وحتى لو كانت موظفة، ففي إمكانها أن تكافي طفلها في نهاية الأسبوع بقضاء بعض الوقت معه في تنفيذ ما جاء في الخطة وممارسة المهارات التي يحب. وإذا لاحظت أنّ طفلها يبدي اهتماماً بنشاط ما، مثل الموسيقى، الرسم، أو الرياضة بأنواعها... إلخ، عليها تشجيعه ودعمه ومحاولة تنمية هذا الجانب لديه.
على الأُم تشجيع طفلها على العلم من خلال الفن، الذي يُعرّف الطفل إلى الحضارة والتاريخ. وهو يشجع الطفل على التعبير عن ذاته، ويزرع في داخله الثقة، ويمكّنه من التواصل مع الآخرين، كما يساعده على تطوير مهاراته وقدراته على التفكير، والفن يحتاج إليه الطفل في التعلم، وتطوير المهارات الاجتماعية، والقدرة على التحمل. إنّ لوسائل الفن، مثل الرسم بالألوان المائية والتصوير والنحت والرقص والغناء... إلخ، تأثيراً كبيراً في قدرة الطفل على التعلم. فالفن يستطيع بناء أساس صلب لموضوعات أكاديمية أخرى.
للموسيقى دور مهم في الثقافة. ومن المعروف أنّ الطفل يتعلم في أساس من خلال الصوت. وبالنسبة إلى الطفل، فإنّ التركيز على الصوت أسهل من التركيز على حركات الوجه. لذا، فإنّ الإيقاع الموسيقي، بشكل خاص، يشد انتباه الطفل أكثر من أي شيء آخر، ويجعل منه أداة تعليمية قيّمة. والتعليم عبر الموسيقى يزيد من ذكاء الطفل ومن نجاحاته العلمية ومن مهاراته الاجتماعية، وحتى من لياقته البدنية. والموسيقى تحفز الدماغ والمهارات الأدبية وتؤدي إلى فهم العلوم الرياضية. من هنا، يجب على الأُم أن تشجع طفلها على تعلم العزف على آلة موسيقية وعلى الغناء، وعلى دراسة الموسيقى الكلاسيكية.
على الأُم تشجيع الطفل على التعلم باستخدام يديه، كلما كان ذلك ممكناً. مثلاً، يمكنها جعل طفلها الصغير يلمس كوباً، ثمّ تكرر على مسامعه لفظ الكلمة إلى أن يتعلمها، وأن تعوّده على حمل قلم بيده وتعطيه ورقة ليحاول الخربشة عليها، وأن تقرأ عليه قصة قصيرة. فالقراءة والكتابة، هما من الوسائل المسلية والفعّالة التي تشجع الطفل على التعلم، تماماً كما الألعاب التثقيفية. لذا، على الأُم مشاركة طفلها هذه الأنشطة الفعّالة لتشجعه وتحفّزه إلى التعلم. إنّ الاشتراك في فرق تعليمية وتثقيفية، يُعتبر من الوسائل الناجحة في تعليم الطفل. فقد أثبتت هذه الوسائل نجاحاً ملحوظاً في تشجيع الطفل على التفكير السليم، وعلى تعزيز مهاراته الاجتماعية، وقدراته على اتّخاذ القرار وتولي زمام أمره. كما أنّها تساعد الطفل على الاشتراك في المناقشات، وإجراء حوارات مع الأطفال الآخرين في الفريق نفسه، وتخفف من غضب الطفل، وتشجيعه على إيجاد حلول عامّة للمشاكل.
على الأُم أن تشجع طفلها على طرح الأسئلة، وأن تُبدي استعداداً للردّ عليها. فعندما يبدأ الطفل في الكلام، لا يتوقف عن طرح الأسئلة. ومع أنّ الأُم تَملّ من كثرتها، فتحاول تجاهلها، ولكن عليها أن تدرك أنّ كلّ سؤال يطرحه الطفل يستحق الردّ. أحياناً يكون أفضل ردّ على سؤال الطفل هو طرح سؤال عليه. فعندما لا يتلقّى الطفل ردّاً على سؤاله، أو عندما لا يكون الردّ مقنعاً، قد يتوقف عن طرح الأسئلة، فيؤدي هذا الإهمال إلى الحدّ من فضول الطفل، وهذا بدوره يؤدي إلى توقفه عن البحث، ما يؤثر في حبّه للعلم والمعرفة. بالطبع، يجب أن تتناسب الردود وسن الطفل أي أن تكون قصيرة وبسيطة.
على الأُم ألّا تسمح لطفلها بالجلوس أمام شاشة التلفزيون لفترة طويلة من الزمن. إنّ أسرع طريقة لإيقاف دماغ الطفل عن العمل هي الكبس على زر التلفزيون ليعمل. من المؤكد أنّ في استطاعة الطفل التقاط معلومة (الحرف، اللون، العد... إلخ) أثناء مشاهدته برنامجاً تلفزيونياً مُخصَّصاً للأطفال منتقَى بعناية شدية. ولكن، بالنسبة إلى العلم، فالتلفزيون غير فعّال إطلاقاً. فهو لا يشجع الطفل على التعلم بنفسه كمشارك نشيط وفعّال في عملية التعلم. فالأطفال الذين يتعلمون من التلفزيون، يميلون إلى الاكتفاء بما يلتقطون من معلومات. وفي أغلب الأحيان لا يستطيعون التقاط المعلومة بشكل جيِّد، أو يلتقطونها غير مكتملة نظراً إلى سرعة تغيّر الصورة، فلا يحاولون البحث عن المعلومة، ويبدو معظمهم أنّهم راضون بما حصلوا عليه من التلفزيون.
لذا، على الأُم أن تحدّ من مشاهدة طفلها التلفزيون، وأن تحاول أن تشاهده معه.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق