◄هل من المبالغة في شيء أن كانت أوّل خطوة خطاها الإنسان فوق الأرض، ثورة.. وثورة كونية...؟
وهل من المبالغة في شيء أن كان أوّل نظرة أجالها الإنسان فيما حوله، ثورة... وثورة كونية...؟
وهل من المبالغة في شيء أن كان أوّل ما صنعه الإنسان أو امتدت إليه يده، ثورة.. وثورية كونية...؟
لا... ليس هذا من المبالغة في شيء، فلقد كانت خطوته إرادة، ونظرته عقل وعمله صناعة. وتلك هي جماع الفطرة الإنسانية ولباب وجودها وكيانها... وإنّه لمن الصواب، بل من الأجدر أن توصف هذه الفطرة البشرية بأنّها إمكانية الحياة.. فإمكانية الفطرة البشرية طاقات ونزعات حيوية بها يتحقق وجود الإنسان واستمرار هذا الوجود كما يتحقق بها الصعود بهذا الوجود في معراج الترقي والتهذب. ولتحقيق تلك العمليات الفطرية كانت ضرورة وجودية حيوية أن يكون التحقيق امتلاك وأن يكون التناضل والكفاح الثوري هو السبيل لتحقيق الإمكانية حتى ولو كانت إمكانية معنوية أو نفسية... فلا غرابة إذن حين يسفر تحقيق الإمكانية عن أنانية أو أن تكون الأنانية من طبيعة الإمكانية ذاتها. فإذا ناضل المرء في سبيل غاية أو من أجل غاية هجست بها نفسه وتوترت لها أعصابه.. فماذا يكون ذلك النضال إلا أن يكون نضالاً في سبيل الأنا أو الذات من أجل تحقيق وجودها فهو على هذا نضال أناني؟ نعم، هو نضال أناني، والتحقيق حين يتم على صورة وبأية نتيجة يكون تحقيقاً أنانياً...
وللفطرة البشرية مجال مطلق، كالمجال المغناطيسي، يتميز بالحيوة والصيرورة الدائمة: حدوده ما بين السماء والأرض على الاطلاق... وهو يشمل عموم الظواهر الكونية الطبيعية والظواهر الحضارية الإنسانية، بل هو يشمل الإطار الزماني العام الذي يحيط به ويدور في فلكه. وفي نفس الآن فإن لكل إمكانية تنطوي عليها الفطرة البشرية مجال مغناطيسي خاص بها: وهو أيضاً يتميز بالحيوة والتدافع، تضيق حدوده أو تتسع حسب الدائرة التي يعمل بها هذا المرء أو ذاك.. حسب الدائرة من حيث نوعها ودرجتها وطبيعتها، ومن حيث زمانها ومكانها وعصرها. وكذلك حسب النفسية – أو العقلية – التي يكون عليها أو حسب الشخصية التي يعمل بها لتحقيق ما راوده وألح على فكره ومشاعره. فكأنّ الفطرة حين تكون على هذه الشاكلة فإن ما يتحقق من إمكانياتها لا يتم ولا يتأكد له وجود إلا إذا دخل في مجالها المغناطيسي سواء في المجال المطلق أو المجال النسبي الخاص.. وهو لا يدخل إلا بنوع من التعاطف أو التمثل، به وحده وفي دائرته أو مجاله، تتحقق الإمكانية تحققاً إنسانياً أو تكتسب الصبغة الإنسانية أو الخصائص الإنسانية. ولذلك فإننا نطلق على المجالين معاً لتآصرهما وتكامل آثارهما في الكيان الإنساني اسم "دائرة التعاطف الإنساني" تمييزاً لها وتخصيصاً... وإذا كان تحقيق الإمكانية لا يتم ولا يتأكد إلا بالنضال الثوري، إلا أنّ العبرة هنا بطبيعة التحقيق وسماته الغالبة لأن ذلك يعيِّنُ طبيعة التعاطف الإنساني ودرجته أي طبيعة الدائرة ودرجتها.
صحيح أنّه صعب أن تتحقق الإمكانية تحقيقاً واقعياً كاملاً يرضي عنه صاحبها رضاء كاملاً، أو يرضى الفطرة رضاء كاملاً ولهذا كان الفشل في تحقيق الإمكانية أو تحقيق جزء منها أو إرجائها إلى ريث تتحقق أسبابها إن لم تكن مواتية، هو مصدر الشر والآثام التي تروج بين الناس إن لم يكن مصدراً لكثير من الآفات النفسية التي تنزل بأصحابها من جراء فشلهم أو نكوصهم عن تحقيق ما يرغبون أو يشتهون.
فإن قيل إن رضاء صاحب الإمكانية إذا تحققت له وأصبحت واقعاً مؤثراً في مكانته أو شخصيته، لا يعني أنّ التعاطف هنا يكون إنسانياً بالضرورة فقد يكون التحقيق بغياً وفساداً وقد يكون هروباً وتنصلا.. إن قيل ذلك واعترض به فإنّ الاعتراض صحيح له حجته وبرهانه، ذلك لأنّ التعاطف لا يكون إنسانياً إلا إذا كان عطف وفاق وعطف تواد وتراحم وإشفاق. فإن خلا التعاطف من هذه الصفات فما هو بإنساني وإن انتسب إلى الإنسان الذي اقترفه أو اجترمه وحقق له من الرضاء المادي أو النفسي ما يطمئنه أن يطفىء لوعته أو يسد جوعته. وإذا كانت الفطرة البشرية هي إمكانية الحياة بما هي حياة فإنها فطرة تحقيق الخير بغير شك سواء أكان الخير بالنسبة إلى الفرد أو المجتمع أو الأُمّة أو الإنسانية بأسرها. وما من شك أيضاً من أن لكل دائرة من هذه الدوائر: الفرد، المجتمع، الأُمّة، الإنسانية، خيرها الذي يعينها على البقاء ويهيء لها أسباب الارتقاء. ومن هنا فإن ما قد يصبو إليه الفرد من خير قد يأتي عن أثرة وكزازة في الطبع وجمود في التعاطف فلا تنتفع به الجماعة بحال.. وربما جاء انتفاعها ضئيلاً مستحقراً فلا يحسب له حساب بل يكون عليها آفة وييلة.. وربما جاء ما يقرره المجتمع وينهض له من أسباب الخير وأنواعه قاهراً للفرد وباغياً على إرادته وفكره وأحلامه ومرغماً لإمكانياته على أن تتحول آلياً إليه خدمة له وشداً لأسره غير عابىء في نفس الآن بما قد يصيب الفرد أو ينتهي إليه أمره...
فتعاطف المجتمع آنئذ إذ يصدر عن قهر وإرغام وتسخير، ويكون تعاطفياً جامداً وإن ادعى أصحابه ومظاهروه غير ذلك أو تأولوا له من الحجج ما ينهض له البينة.. أما إن حدث المجتمع على الفرد وراعى إمكانياته ورعاها وأمدها – عن تقدير واحترام – بما يفجر منها الخير فيسعد بما يجني ويهنأ بما كان يتمناه – إن وفق المجتمع إلى تحقيق إمكانيات الفرد على هذا المنهاج وبغير تعصب لفئة أو تحيز إلى فئة فذلك هو التعاطف الإنساني الجميل...
ونقول مثل ذلك عن الأُمّة.. أما التعاطف الإنساني نحو الإنسانية فهو التعاطف العالي الذي لا يبلغه الفرد أو المجتمع أو الأُمّة إلا بنوع من التصوف الوجودي الفطري الذي يؤمن بالله إيمان تنزيه وتوحيد.. ويؤمن بالإنسان إيمان إخاء وتواد... ويؤمن بالكون إيمان مشاركة في البقاء والمصير، وتلك هي الدائرة الكبرى للتعاطف الإنساني النبيل الجليل. إلا أنّ التعاطف الإنساني وإن جاء فطرة من فطرة الحياة البشرية فهو لا يصدر من فعله أو عمله أو تفكيره أو قوله عن بكارة الفطرة وغضارتها، ولكنه يصدر عن الفطرة وقد تثقفت بثقاف الدوائر الاجتماعية التعاطفية: دائرة الأسرة، ودائرة الطبقة الاجتماعية، ودائرة المجتمع ككل.. فلكل من هؤلاء أثره الفعال في نفسية الفرد وبناء شخصيته بمالها من تقاليد وآداب وأعراف اجتماعية ودرجة فكرية وثقافية، وبمالها أيضاً من مشرب في تذوق الحياة والنظر إلى الغير.
بهذه العوامل أو المقومات النفسية تُصقل عاطفة الفرط وتحدد سماتها كما تعين شرعتها في النظر ومنهاجها في العمل ومعالجة شئون المعاش. وبمعنى آخر تعين دائرة تعاطفها الإنساني في تعاملها مع الغير فتدخل من تشاء في دائرتها وتلفظ من تشاء وتذود عن دائرتها من تنفر منه أو ترهبه...
ولو أننا استقرأنا التاريخ الإنساني بأطواره وأحقابهوفي كل موطن في مواطن الحضارة، وحتى عصرنا هذا بل وأيامنا هذه... لو أننا استقرأناه لوجدنا – يقينا وحقيقة واقعية مجسدة في كل ظواهر الاجتماع – أن مركز دائرة التعاطف الإنساني أو قلب دائرة التعاطف الإنساني هو اإيمان بالله، أو فطرة التدين.... كيف؟
ولو أننا استقرأنا التاريخ الحضاري للإنسان لوجدنا أنّ التعاطف الإنساني هو أساس الظواهر الحضارية من سياسية وأخلاقية وثقافية واقتصادية... كيف؟!►
المصدر: كتاب دائرة التعاطف الإنساني
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق