السيد الراحل محمد حسين فضل الله
"قدّم الطاعةَ قُرباناً لله.. وقَدّم ابتعادَكَ عن المعصيِةِ قُرباناً للهِ، وقدّمْ توبتَكَ قرباناً لله، وستجدُ في كلِّ يومٍ عيدَ أضحى".
- العيد في الإسلام:
مرّ بنا عيد ونستقبل عيداً آخر، وفكرة العيد في الإسلام لا تنطلق من مجرد مناسبة يراد استذكارها ليكون العيد مجرّد حافز للذكرى، ولكن العيد في الإسلام ينطلق من فكرة تتصل بكل حياة الإنسان، فليس فيها ماضٍ وحاضر ومستقبل، بل هي الفكرة التي تتفق على إنسانية الإنسان في كل أمورها وفي كل نشاطاتها، الأمر الذي يجعل معنى الإحتفال بالعيد مختلفاً عن كل ما يحتفل الناس به، لأنّ الناس عادة يختلفون بمناسبة تتصل بأوضاعهم الشخصية فيفرحون الفرح الذاتي، ولكن الإحتفال بالعيد هو إنسجامٌ مع الفكرة وحركةٌ من أجل تأكيدها في واقع الناس وفي واقع الحياة. ومن خلال ذلك يمكننا أن نستوحي من العيد الإسلامي ما استوحاه علي (ع) عندما اعتبر أن من الممكن إذا انفتحنا على فكرة العيد أن نحول كل أيامنا إلى أعياد فلا يكون العيد يوماً في السنة، بل يكون العيد السنة كلها من خلال تأكيد الفكرة.
في عيد الفطر نستوحي أنّه عيد قيام الإنسان بالمسؤولية، لأنّ الإنسان يحتفل بعيد الفطر كما أراد الله له، لأنّه قام بالواجب الذي فرضه الله عليه، واستطاع أن يقترب من الله أكثر، واستطاع أن يعرف الله أكثر. ومن المعلوم أن قصة المسؤولية أمام الله هي قصة على مدار الساعة، لا على مدار السنة ففي كل ساعة تعيش مسؤوليتك أمام الله فيها أمرك هو رأيك؟ قال كيف تطلب منِّي الرأي والرأي يطلب في الأمر الذي يحتمل أمرين ليقبل هذا أو ليرفضه، أما عندما يكون الأمر واحداً من عند الله فأمر الله ليس فيه خيار (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...) (الأحزاب/ 36)، (قال يا أبتِ افعل ما تؤمر) مادام الأمر أمر الله فافعل (ستجدني إنْ شاء الله من الصابرين) الذين يعيشون صبر الطاعة من خلال عمق القناعة، ويعيشون البلاء من خلال الإرادة الروحية بين يدي الله (فلمّا أسلما) أسلم الأب الأمر إلى الله، وأسلم الولد أمره إلى الله و(ناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا) فأنت لم تر في المنام أنّك ذبحت ولدك ولكن رأيت في المنام أنك بدأت التحضير لذبحه ولذلك فلم يكن لك أن تذبحه، ولكن المسألة هي أنّ الأمر الإلهي بهذه المهمة يظهر أنك مستعد أن تنتهي بها إلى نهاية المطاف (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (الصافات/ 104-106).
وأي بلاء أشد من أن يتولى الإنسان ذبح ولده بيده، أو يقدم نفسه للذبح (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات/ 107)، وكانت هذه المسألة منطلقاً في أن يكون اليوم نفسه عيداً وذلك بتقديم الحاج قربانه لله كما قدم إبراهيم قربانه لله، وكما قدّم إسماعيل قربانه لله (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات/ 110)، لقد كانت هناك صداقة بين إبراهيم وربّ العالمين فلقد اتّخذ الله إبراهيم خليلاً (إنّه مِنْ عبَادنا المُؤْمِنِين). وهكذا، أيّها الأحبة، علينا أن نعيش الأضحى عيد الإسلام لله بأن يسلم الإنسان المسلم فيكون قلبه صورة لما أراد الله من عاطفة بأن فتح قلبه للعاطفة التي يحبّها الله وأن يكون مسلماً في حركته بحيث يبصر الإتّجاه إلى الله، فما لم يكن مسلماً في مواقفه وموقعه وعلاقاته فإنّه ليس صاحب الإسلام، فصاحب العيد هو الذي إذا أراد الله له أن يفعل فلا ينتظر ليفعل، وإذا أراد الله له أن يترك فليترك، ولهذا نستطيع أن نعتبر كل يوم عيد أضحى لأنّه يوم نسلم فيه أمرنا لله، وكل يوم نتقرب فيه لله لا بتجديد الثياب ولكن نقدم الطاعة قرباناً لله ليقبلها، قدم ابتعادك عن المعصية قرباناً لله، قدم توبتك قرباناً لله، قدم مسؤوليتك ومحبتك للإنسان كلّه وللحياة كلها في سبيل الله ومن أجل الله فسوف تجد في ذلك كل يوم عيد أضحى.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
ابو الوفا
رحم الله روحك الطاهرة يا سيدنا العزيز كنت ولا زلت قمة في الفكر والوعي وتوضيح المفاهيم الاسلامية ووضعها في صورة زاهية رائعة ، فمعنى العيد هو فعلا الاحتفال بيوم المسؤولية امام الله سبحانه وتعالى سيدنا ما زلنا ننهل في فيض علومكم وما زلت فينا كباقر الصدر والعلماء الواعين رحمكم الله تعالى وقدس روحكم الطاهرة