• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أنماط الغضب ودواعيه في القرآن

أ.م.د. عقيل جاسم

أنماط الغضب ودواعيه في القرآن

الغضب هو استجابة انفعالية سلبية إزاء التعرض لمثير انفعالي تتحكّم في سلوك الكائن الحيّ، وتدلّ على عدم تكامل شخصيته.

ويقترن الغضب بتوتر انفعالي حاد يرافقه تسارع في نبضات القلب وتغيُّر لون الوجه نتيجة التعرّض لموقف انفعالي، ويصدر عنه سلوك دفاعي. وقد تطرّق القرآن الكريم إلى نمطين من الغضب أحدهما مختص بالخالق والثاني مختص بالمخلوقين. أمّا غضب المخلوقين فقد مدح القرآن طائفة من المؤمنين بأنّهم يتحكّمون بانفعالاتهم عند سَورة الغضب، ويقابلون الإساءة بالإحسان، فيغفرون زلّة الآخرين ويتجاوزون عن إساءة مَن يُسيء إليهم، وليس ذلك فحسب، بل يحنون إليه ويكرمونه ويغفرون له إساءته، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الطائفة في قوله تعالى: (وإذا ما غَضِبُوا هُم يَغفِرُون) (الشورى/ 37)، وفيها نكاتٌ عدّة نوجزها بما يأتي:

- جاء استعمال البنية الإسمية في قوله: (هُم يَغفِرُون) لتثبيت المعنى المقصود وترسيخه في الذهن.

- استعمال أداة الشرط (إذا) لما هو متحقق الوقوع في معرض تأكيد حصول هذا الأمر وتحقيق وقوعه لحثّ المتلقي للاتصاف بهذه الصفة المحمودة لتحقيق الاستجابة المطلوبة.

- تقديم المسند إليه في قوله: (هُم يَغفِرُون) لتقوية الحكم وتأكيده لكونه واقعاً في معرض الاستغراب، فضلاً عن إفادة التخصيص لإثبات تلك الفضيلة (الصفح في حال الغضب) لهم وحدهم ونفيها عن سواهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم.

- استعمال الصيغة المضارعة في قوله: (يَغفِرُون) للدلالة على الزمنية المفتوحة، أو كما يقول البلاغيون لاستمرار الفعل وقتاً بعد وقت، لكون هذا السلوك يعكس منهجاً ثابتاً وسنّة متّبعة في التعامل مع الآخرين لاستقطابهم وهدايتهم وبخاصّة للمخالفين لهم في الرأي أو المذهب أو المعتقد، أي هكذا هو دأبهم في كلّ الأزمان والعصور وأياً كانت الظروف والأحوال.

- جاء التضاد بين الغضب والعفو أو (المغفرة) لإحداث خرق في البنية لكونه خارجاً عن المألوف، ففي العادة أنّ الإنسان يعفو ندماً تستقرُّ نفسه ويذهب عنه الغضب، ومصداق هذا قوله تعالى: (ولَمّا سَكَتَ عَن مُوسى الغَضَبُ أَخَذَ الأَلوَاحَ) (الأعراف/ 154).. أمّا أن يعفو لحظة الشروع بالغضب واشتداد سَورته فهذا تجاوز للمألوف وانحراف في بنية الخطاب:

- إذا ما غضبوا...

- هم ينتقمون – هم يبطشون – هم يظلمون وإذا ما غضبوا.. هم يغفرون!!

- إنّ امتناع الربط الوظيفي بين الشرط والجزاء بفعل تقنية التضاد بين (غضبوا) و(يغفرون) ساعد على تحقيق سرعة في الأداء التعبيري لنكتة دلالية مفادها أنّ المخصوص بالخطاب على قدر كبير من الاتزان النفسي والاستعداد الفطري لترويض النفس وكبح جماح الغضب، وأنّ المثيرات الانفعالية مهما بلغت قوّتها فهي لا تحرك منهم ساكناً لكونهم بأتمّ استعداد وبجهوزية عالية لمقابلة الإحسان بالإساءة أو الغضب بالعفو والمغفرة، أي إنّ تطلّعهم لرضوان الله والظفر بنعيمه الأبدي يشغلهم عن لتفكير في أُمور الدنيا أو التأثر بأحوالها، فكلُّ ما فيها – في نظرهم – شيء لا قيمة له بإزاء ما عند الله من النعيم والرضوان ولذلك فهم ليسوا بحاجة إلى فسحة زمنية – إذا ما تعرّضوا لمثير ما – لتهدأ نفوسهم ويسكت عنهم الغضب. وبتعبير آخر: "إنّ الإرادة القوية لهؤلاء قد نابت مناب الفاء الرابطة لتقييد الجزاء بالشرط".

وأمّا غضب الله عزّوجلّ أو إنكاره على مَن عصاه، فهو عقوبة صارمة أعدها الله لفئة من الناس ممن ابتعدوا عن ساحة الله وتجاوزوا حدوده واستخفّوا بأوامره ونواهيه وتنكّروا للمنهج الذي حدّده الشارع المقدّس لأجل التعبُّد لله وتطبيق أحكامه.

ولغضب الله في القرآن دواع عدّة، هي:

- الارتداد إلى الشِّرك: ورد في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) (الأعراف/ 152).

- الاعتداد بالكفر: ورد في قوله: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) (النحل/ 106).

- سوء الظن بالله: ورد في قوله: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (الفتح/ 6).

- مجاوزة الحد: ورد في قوله: (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) (طه/ 81).

- تعمُّد قتل المؤمن: ورد في قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) (النساء/ 93).

- الفرار في الحرب: ورد في قوله: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) (الأنفال/ 16).

- نقض العهد: ورد في قوله: (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) (طه/ 86).

- شهادة الزور: ورد في قوله: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (النور/ 9).

وقد اقترن غضب الله في القرآن بسبعة أنماط من العقاب، هي:

- الهلاك: ورد في قوله: (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (طه/ 81).

- الرجس: ورد في قوله: (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) (الأعراف/ 71).

- اللعن: ورد في قوله: (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (الفتح/ 6).

- المسخ: ورد في قوله: (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ) (المائدة/ 60).

- الذلّ والهوان: ورد في قوله: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) (البقرة/ 61).

- العذاب الشديد: ورد في قوله: (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) (الشورى/ 16).

- الخلود في جهنّم: ورد في قوله: (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) (النساء/ 93).

 

المصدر: مجلة ينابيع، العدد 59 لسنة 2014م

ارسال التعليق

Top