• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرحمة والشفقة في شخصية الإمام عليّ (ع)

عمار كاظم

الرحمة والشفقة في شخصية الإمام عليّ (ع)

ما أن لاح وقت الأذان حتى توضأ الإمام عليّ (ع) ونزل إلى الدار وكان في الدار أوز أهدي إلى الحسين (ع)، فلما نزل خرجن وراءه، ورفرفن وصحن في وجهه، وكان قبل تلك الليلة لم يصحن فقال (ع): "لا إله إلاّ الله صوارخ تتبعها نوائح"، فلما وصل إلى الباب وعالجه ليفتحه تعلق الباب بمئزره حتى سقط فأخذه وشده وهو يقول:

اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا * * * ولا تجزع من الموت إذا حلّ بناديكا

ولا تغتر بالدهر وان كان يواتيكا * * * كما أضحكك الدهر كذاك الدهر يبكيكا

ثم قال: "اللهم بارك لنا في الموت، اللهم بارك لي في لقائك" وسار أمير المؤمنين (ع) حتى دخل المسجد، والقناديل قد خمد ضوؤها، فصلى في المسجد وحده، وكان في المسجد ثلاثة رجال أحدهم ابن ملجم قاتل الإمام أما الآخران فهما شبيب بن بحيرة ووردان بن مجالد، فلما أذّن (ع) ونزل من المئذنة جعل يسبح الله ويقدسه ويكبره واتجه إلى محرابه وقام يصلي فتحرك إذ ذاك ابن ملجم وقف بإزاء الاسطوانة التي كان الإمام (ع) يصلي عليها، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وركع وسجد السجدة الأولى منها ورفع رأسه، فعند ذلك أخذ السيف، ثم ضربه على رأسه الشريف، فوقع الإمام (ع) على وجهه ولم يتأوه بل قال: "بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله"، ثم صاح وقال: "قتلني ابن ملجم، قتلني ابن اليهودية فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة". وأحاط الناس بأمير المؤمنين (ع) في محرابه وهو يشدّ الضربة ويأخذ التراب ويضعه عليها. ثم تلا قوله تعالى: ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) (طه / 55). وساقوا ابن ملجم إلى موضع للإمام فقال له الحسن (ع): "هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك"، ففتح أمير المؤمنين (ع) عينية ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه، فقال له بضعف وانكسار وصوت رأفة ورحمة: "يا هذا لقد جئت عظيماً وخطباً جسيماً أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء"، ثم التفت (ع) إلى ولده الحسن (ع) وقال له: "إرفق يا ولدي بأسيرك وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أمّ رأسه، وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً"، فقال له الحسن (ع): "يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به ؟!" فقال له: "نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلّا كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته، بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله، واسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدماً، ولا تغل له يداً، فإن أنا متّ فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة، ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله (ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور، وإن عشت فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به، فإن عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً ". وبدأ يغمى على الإمام (ع) ساعة بعد ساعة لتزايد ولوج السم في جسده الشريف، وقد أُغمي عليه ساعة وأفاق،  فأدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال: "أستودعكم الله جميعاً سدّدكم الله جميعاً، حفظكم الله جميعاً، خليفتي عليكم الله وكفى بالله خليفة". ثم قال: "وعليكم السلام يا رسل ربي"، وقال: (لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) (الصافات/61). (إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَوْا وَالّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ) (النحل/128)، وعرق جبينه وهو يذكر الله كثيراً، وما زال يذكر الله كثيراً ويتشهد الشهادتين، ثم استقبل القبلة وأغمض عينيه ومدّ رجليه ويديه وقال: "أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله"، ثم فاضت روحه الطاهرة (ع)، وكان ذلك في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان أي بعد ليلتين من إصابته بضربة اللعين ابن ملجم. وبذلك انتهت حياة خير خلق الله كلهم بعد الرسول (ص) بعد عمر قضاه في الجهاد في سبيل الله والزهد وإقامة العدل وكان مثالاً للنبل والشجاعة والطهارة والعدل والخير ورمزاً من رموز الكمال البشري على مرّ التاريخ.

ارسال التعليق

Top