قد يضل ضال في فهم نصوص الاستغفار فيخيّل إليه أنّ المغفرة متيسرة للإنسان الخاطئ بلا نظام مهما فسق واقترف من الآثام، كلا ليس الأمر كما حسب، وليست المسألة كلمات ترددها الشفاه بلا ندم على ما سبق وبلا ارتداع عما يسوء، وبلا عزم أكيد على الاستقامة. فإنّه يشترط لنيل مغفرة الله: التوبة من المعاصي، والتوبة في حقيقة اللغة هي الرجوع، وإذا اضيفت التوبة إلى الإنسان أريد بها رجوعه عن الزلات والندم على فعلها. ومن شرط التوبة انّه ينبغي للتائب المنيب أن يبدأ بمباينة أهل المعاصي، ثمّ بنفسه التي كان يعصي الله تعالى لها، فلا ينيلها إلّا ما لابدّ منه، ثمّ الاعتزام على أن لا يعود في معصية أبداً، ويلقي عن الناس مؤونته، ويدع كلّ ما يضطره إلى جريرة.
التوبة أولاها القرآن عناية فائقة، ورددها في كثير من الآيات منها قوله تعالى: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة/ 39). وقوله سبحانه: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام/ 54). والقرآن كثيراً ما قرن الاستغفار بالتوبة كما في قوله تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (هود/ 3)، لأنّ الداعي إلى التوبة والمحرض عليها هو الاستغفار، وهذا يدل على أنّه لا سبيل إلى طلب المغفرة من الله إلّا باظهار التوبة، لأنّ المذنب معرض عن طريق الحقّ، وما لم يرجع عن آثامه لا يمكنه طلب الغفران فثبت أنّ الاستغفار مطلوب بالذات وأنّ التوبة تابعة له لأنّها من متممات الاستغفار. والتوبة التي يطلبها القرآن يجب أن تكون عقب ارتكاب المعصية والإصابة بالمرض، فلا يترك المذنب المرض يتفاقم ويستعصي على العلاج قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء/ 17). اشترط الله في قبول التوبة أمرين: أن يعمل السوء بجهالة ومعناه باندفاع وطغيان وشهوة، وأن تجيء التوبة عقبه في وقت قريب منه. أمّا إذا تعوّد الإنسان على السوء واطمأن إليه وظل على هذه الحالة حتى اقتراب أجله فإنّ الله لا يقبل توبته. كما جاء عقب الآية السابقة: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (النساء/ 18).
والقرآن الكريم يقرن العمل الصالح مع التوبة لنيل مغفرة الله قال الله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (طه/ 82). ويقول سبحانه: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان/ 70). فالتوبة إذن هي من أهم الدعائم الخلقية، فكلّ تأخير فيها هو انحلال في الشخصية الإنسانية، وكلّ إسراع وصدق فيها هو إصلاح للنفس وسبب قوي للقضاء على الشر.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق