• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قصص تربوية في السلوك الحضاري الراقي/ ج(6)

أسرة

قصص تربوية في السلوك الحضاري الراقي/ ج(6)
القصة الحادية عشرة "هي حاجتي!!" يُحكى أنّ (المنصور العباسي) قال لأحد الأشخاص الذي لا يحبّون أن يطرقوا أبواب الملوك أو يقفوا عليها: هل لكَ من حاجة؟ قال: نعم. قال: ما هي؟ قال: أن لا تبعث لي حتى آتيك!! قال المنصور: إذا لا نلتقي!! قال الزاهد في دنيا المنصور وهباته: هي حاجتي!!!   - الدروس المُستخلَصة: 1- (المنصور العباسي) هنا هو الذي عرضَ على هذا الشخص الأبي الحاجة، أي أنّه لم يطلب شيئاً لنفسه، والملوك حينما يعرضون أو يطرحون السؤال على شخصٍ هل لكَ من حاجة؟ يتصوّرون إنّ الإجابة ستكون مطلباً دنيوياً، لأنّ عقول الملوك والسلاطين لا ترتقي إلى أبعد من ذلك، ومع ذلك لم يقل هذا الشخص الزاهد العفيف: السلطان عرض عليَّ فلأطلب منه ولا يكون في ذلك تنازل، أو انتقاص من الكرامة! 2- (لا تبعث لي حتى آتيك)، أي لا تُتعِب نفسك في إسترضائي أو إغرائي أو إستمالتي، فأنا ممانعٌ عصيّ!! وقد فهمها المنصور جيِّداً عندما قال: إذاً لا نلتقي. 3- (هي حاجتي) أي هذا هو مطلبي بالضبط، أن لا نلتقي، ومعنى ذلك أنّه لا يُشرِّفني لقاؤكَ يا سلطان زمانك. وتلك هي النفوسُ الأبيّة، كبيرةٌ في مواقفها، عصيّة على المساومة غنيّة بما أغناها الله من عزِّه.   القصة الثانية عشرة "دعاني مَن هو خيرٌ منكَ فأجبته!!" مرّ (الحجّاجُ بن يوسف الثقفي)، بأعرابيٍّ مضطجع في ظلِّ شجرةٍ في البادية، فرفسه برجلهِ، فنهض الأعرابيّ فزعاً. فقال له الحجّاج: قُمْ وتغدَّ معي! فقال: دعاني مَن هو خيرٌ منكَ فأجبته!! فقال له الحجّاج مُغضباً: ويحك، مَن؟! قال الأعرابي: لقد دعاني ربِّي فأنا صائم له! فقال له الحجّاج: أفطر اليوم معي، وصُم يوم غد! فقال له الأعرابي: إن ضمنت لي أن أبقى إلى يومِ غد فإنِّي أفطر! فقال له الحجاج: هذا أمرٌ لا أضمنه لنفسي، فكيف أضمنه لك؟! فردّ عليه الأعرابي: إذن دعني أصوم لِمَنْ بيدهِ أمري هذا اليوم وكلُّ يوم. فقال الحجاج: ولكنه طعامٌ طيِّب. فقال الأعرابي: لم تُطيِّبه أنت، طيّبته العافية! وعاد إلى مضجعه وتركَ الحجّاج مذهولاً صعقاً مصدوماً!   - الدروس المُستخلصة: 1- مخاطبة الحجّاجُ بن يوسف الثقفي بلغة الأعرابي لن يقدر عليها إلا مَن أوتي إيماناً عظيماً، وقلباً ثابتاً، وهي من كلمات الحقّ في حضرة السلطان الجائر التي تُعدّ في نظر الإسلام من أعظم الجهاد. 2- الشيطان قد تجلّى على لسان (الحجّاج) أحد شياطين الإنس، ليُغري هذا العبد الصائم المُنعزل، لكنّ ممانعته كانت صلبة، ورفضهُ كان عنيداً، فأبى أن يستسلم أو يضعف أو ينهار، فكانَ لكلِّ إغراءٍ عنده: (لا)!! وبهذه الـ(لا) انتصرَ الكثيرون. العرفان بالله يتجلّى في موقف الأعرابي من خلال: "لقد دعاني مَن هو خيرٌ منك"! و"دعني أصومُ لِمَن بيده أمري هذا اليوم وكلّ يوم"!! إنّه إيمانٌ (صامدٌ) و(صارمٌ).. صامدٌ في نفسِ صاحبه، صارمٌ للحجّاج الذي قلّما يسمع كلمات كأنّها رشق السهام. 4- الأعرابي على وعي ثقافي واضح، فهو لا يرى الطعام من خلال كونه طيِّباً في ذاته فقط بل من خلال العافية التي تجعل الطيِّب طيِّباً في فم متناوله أو آكله، وإلا فالمرضى لا يجدون لذّة الطعام وطيبه حتى ولو كان من أطيب الطعام وأشهاه. 5- هذا الأعرابي الأبي القوي الإيمان يستحق منّا تحيّة، أو رفع قبّعة، أو انحناءة إجلال، فلقد انقضى ذلك اليومُ من حياته ومن حياة الحجّاج أيضاً، لكنّه كتب موقفه بأحرف من نور عند الله وملائكته وعندنا نحن الذي أحببناهُ على الرّغم من أنّنا لم نره!

ارسال التعليق

Top