الخوف غريزة خص الله بها سائر الكائنات الحية، كوسيلة لتجنب الأخطار في الأوقات المناسبة، والحفاظ على البقاء واستمرار الحياة على وجه الأرض. وتتعدد أشكال الخوف ودواعيه ومظاهره، حسب تنوع الأسباب وتعدد العلل التي تفرزه، وخوف الأطفال أشد وقعًا وتأثيرًا على نفسياتهم الهشة، ومنه رهاب المدرسة الذي يُعَدُّ من التجارب القاسية التي يمكن أن يتعرضوا لها.
ويمكن تصنيف رهاب المدرسة ضمن الاضطرابات النفسية التي تصيب الطفل، وتسبب له معاناة شديدة كلما أزف أوان الحصص الدراسية، ويمكن أن تتفاقم هذه الحالة، وتنضم إلى جملة الأسباب المساهِمة في تغذية ظاهرة الهدر المدرسي، وبخاصة في المؤسسات التربوية التي ما زالت تمارس فيها العمليات التعليمية التَّعَلُّمية اعتمادًا على طرق أصبحت من الماضي، وهي معاملات جارحة لكرامة الطفل ومهينة لإنسانيته، ومنها العقاب الجسدي والعلامات (النقط) المتدنية والمحبطة، والسخرية من المظهر أو الشكل أو اللون أو اللهجة، وما إلى ذلك من ضروب السلوكيات المتخلفة. بينما تغيب أساليب الدعم والتشجيع والمساعدة على رفع المعنويات، ووضع التلاميذ على سكة الأمل والطموح، واستثارة إراداتهم وشحذ عزائمهم، وتحسيسهم بمواطنتهم التي تضمن لهم حقوقهم، وتحدد لهم واجباتهم. غير أنه في ظل تلك الممارسات السلبية، يظل الطفل متخبطاً في شباك الخوف من المدرسة، وترتبك لذلك حياة الأسرة وتختل موازينها، وتتيه في أنفاق مظلمة من الحيرة، فتجرب الحلول تلو الأخرى لجعل الطفل يطمئن إلى بناية المدرسة وإلى معلميه وزملائه. وتزداد حدة المعضلة لدى من تتراوح أعمارهم بين السنة الثالثة والسنة العاشرة، ذكوراً وإناثاً، وهي مرحلة عمرية حساسة، لأنها تهم التعليم الأولي والابتدائي، ولكونها أساس بناء شخصية الطفل، ووقت زرع بذور معارفه وتمتين ركائز سلوكه. وكل تدخل غير سليم في حياته، سيترك ندوبًا غائرة ودائمة على نفسيته، وقد تلازمه طول عمره.
أعراض وتجليات
يعاني الطفل المصاب برهاب المدرسة من الرعب المطَّرِد كلما واجه موقفاً يفرض عليه البقاء لوحده بسبب تعلقه بأسرته، فهو يخشى الانفصال عنها أو فقدانها. وتتمظهر حالات هذا الرهاب في شكل حالات نفسية مضطربة، إذ يشرع في البكاء عند اقتراب موعد الذهاب إلى المدرسة، ويبدي رغبته في البقاء مع ذويه في البيت، ويزداد رفضه ولوج باب المدرسة. وقد تتخذ أزمة الخوف مظاهر تتبدى في أعراض جسدية، فيشعر بآلام في بطنه، أو صداع في رأسه، وتنتابه نوبات من الفزع مصحوبة برعشة ودوار، ودوخة وغثيان وقيء، وقد يفاجئه تبول لا إرادي أو إسهال حاد من جراء الخوف والتوتر، ويرافق ذلك تسارع ضربات القلب وعرق غزير وبارد. وما أن يسمح له بالبقاء في المنزل حتى تتحسن حالته وتختفي الأعراض، فيعود إلى نشاطه السابق، وبمجرد تجدد موعد الذهاب إلى المدرسة، تهاجمه الأعراض نفسها، وهكذا يظل المسكين سجين دوامة مفزعة من الخوف والرعب.
أسباب وعلل
ترجع أسباب رهاب المدرسة إلى عوامل مختلفة، منها ما يتعلق بعدم سلامة البيئة المدرسية، فيحاول الطفل الهروب من العوامل المسيئة التي تحيط به وتسبب له القلق، كالخوف من عقاب المعلم، أو تنمر الزملاء، أو غير ذلك من التجارب الجسدية والنفسية المؤلمة التي تؤثر سلباً على تصوره للمدرسة وما تشمله من بنايات وطواقم تربوية وتلاميذ، فيحس بأنه واقع تحت التهديد المستمر طول الزمن المدرسي. ومن المؤكد أن هذه المشاعر تتعب نفسيته وتشغل باله، وتؤثر على صحته الجسدية، فينفر من الطعام ويصاب بالضعف والهزال، وتنفتح الأبواب أمام الأمراض المختلفة لمهاجمة جسمه الصغير.
ومن الأسباب التي تحفز رهاب المدرسة، تلك التي تتعلق بالبيئة الأسرية التي يعيش فيها الطفل، كانعدام الدفء في العش الأسري، والمشاكل بين الوالدين، والفقر والعوز، أو الطلاق أو وفاة أحد المقربين، أو ما شابه ذلك من الصدمات القاسية التي تنعكس على سلوكياته، وتجلب له القلق والتوتر والخوف من كل شيء، وهذه كلها مشاعر نابعة من اللاوعي، ويعبر بها بشكل غير مباشر عن حاجته إلى الإشباع العاطفي الأسري، ويصرِّفها على شكل مخاوف وهواجس، لذلك يفضِّل البقاء بجانب أهله والاحتماء بوجودهم، وفي المقابل يكره المدرسة لأنّها تنتزعه من بين أحضانهم، ونتيجة ذلك، تتراجع كفاءته الدراسية لعجزه على التركيز، مما يعرضه للسخرية ويشعره بالدونية، فتستفحل حالته، ويكثر من الغياب عن الدروس، وقد ينقطع عن الدراسة نهائيّاً.
ويمكن أيضاً أن تعود أسباب رهاب المدرسة إلى المقررات المكثفة والمناهج المعقدة، وطرق التدريس الخاطئة، أو إلى شخصية مدرس عبوس ذي ملامح جامدة وصارمة وقاسية، لدرجة أن رائحة العطر الذي يضعه، أو ألوان ملابسه أو أشكالها تثير الخوف والاضطراب لدى الطفل. كما أن كثرة الواجبات المنزلية تضع الطفل تحت وطأة ضغط شديد، ويغرقه في بحر من القلق واليأس والخوف من عقاب المعلم و الوالدين، فيصاب بالإحباط بسبب توجسه من الفشل في الحصول على نتائج جيدة كان يطمح إلى تحقيقها، مما يزيد من مستويات توتره، فيعجز على التفاعل مع المواد الدراسية، بسبب فقدان الثقة بذاته، فيتضخم خوفه ويتعاظم ثم يصبح مرضيًا.
ويمكن كذلك أن تطرأ تغيرات على حياة الطفل، فتجعل سلوكه يختل ويضطرب، ويدخل في دوامة من الوساوس وعدم يقينية ما يحيط به، فيتزعزع استقراره النفسي. ومن أمثلة ذلك نقله من مدرسة عمومية إلى خاصة أو العكس، أو إدخاله إلى القسم الداخلي، أو أي تغيرات تطرأ في البيئة المدرسية نفسها، كاستبدال معلم بآخر، أو نقله من قسم إلى آخر غير الذي ألفه واستأنس به، أو نقله من مقعد في مقدمة الفصل إلى آخر في الخلف، مما يجعله يحس بأن المعلم قد استهدفه بالإهانة والتحقير، فيتحاشى التفاعل مع الدروس، وينفر من المدرسة ويفقد الحماس والشغف في متابعة الدراسة. وأغلب هذه الأشياء تدخل ضمن الأخطاء التربوية التي يرتكبها بعض المربين في المؤسسات التعليمية العمومية والخصوصية على حد سواء.
حلول ممكنة
يسبب الخوف من المدرسة مشاكل نفسية للتلميذ، فيعتريه القلق والهلع والاكتئاب، ويفقد الثقة بالنفس وبالآخرين، ويميل إلى العزلة والانطواء على النفس، وتصبح شخصيته ضعيفة واجتنابية، وتتأثر صحته الجسدية. وقد يؤدي ذلك إلى تراجع تركيزه واستيعابه للتعلمات داخل الفصل الدراسي، فيتجنب المشاركة والتفاعل، وبسبب انخفاض تحصيله الدراسي يكره المدرسة وينفر منها، ويمكن أن تستمر آثار هذا الخوف وتتفاقم امتدادًا من الطفولة وتشكل عقدة مستمرة في كل مراحل الحياة.
وعلى الرغم من كل ما ذكر، فإن رهاب المدرسة قابل للعلاج إذا تم التعامل معه بالطرق التربوية السليمة، فيتخلص الطفل من خوفه تدريجيًا حتى يشفى تمامًا. وللوصول إلى هذه الغاية، لابد من اتباع مجموعة من الخطوات، أولها يكمن في العلاج السلوكي المعرفي ثم العلاج بالدعم التعليمي. وإذا كانت الحالة مستعصية، فلا مناص من اللجوء إلى طبيب نفسي ليقرر شكل العلاج المناسب. وفي كل الأحوال فإن أغلب الحلول في متناول الأسرة والمعلمين. فمساعدة الطفل على التأقلم مع البيئة المدرسية تعطي أُكلها، ومع الوقت سيتغلب على خوفه، ويستأنس بأقرانه ومعلميه، ويشعر بالأمان.
إن دور المدرسة الإيجابي قمين بمحاربة رهاب المدرسة، إذ عليها أن توفر ظروفًا آمنة تشجع الأطفال على الولع بفضاءاتها، وذلك بتنظيم أنشطة تربوية وترفيهية متنوعة، تكون خلالها أدوار المعلمين والآباء فاعلة ومثمرة، فحضورهم بين الأطفال يساهم في مقاربة مشاكلهم وتشخيص همومهم عن طريق الاستماع إليهم. إذ يمكن أن تكون لرهاب المدرسة أسباب قد لا تخطر على البال، كصعوبة بعض المواد أو صوت المعلم المزعج الحاد، أو شكله المخيف بالنسبة للأطفال. وهذا سيساهم في تحطيم جدار الخوف الذي يقف أمامهم، ويحول بينهم وبين معلميهم. ومواكبة لذلك لابد من محاربة الممارسات المرفوضة، كالعنف اللفظي والجسدي سواء من جانب الأسرة أو الطاقم التربوي، وبين الأطفال أنفسهم. وذلك سيساعد على خلق جو آمن يحضن الجميع ويسبغ الأمان والسلام على كل فضاءات المؤسسة التعليمية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق