في ساعة مبكرة من ذلك المساء، كانت ياسمين تجلس وحيدة على الأرجوحة الموجودة في حديقة المنزل، وكانت تسأل نفسها إذا ما كان قرارها صائباً أم لا؟ فقد استمرّت في صراع مع نفسها طوال الأيام السابقة، فهي تعلم أنها لن تسامح نفسها إذا ضيّعت الفرصة من يدها.
لم يكن والداها يعرفان السبب الحقيقي وراء رغبتها المفاجئة في السفر، غير تلميحاتها بأنها تُريد أن تتفقد دُور النشر في تلك المدينة تمهيداً لنشر كتابها، إضافة إلى أنها تحتاج إلى فترة راحة من ضغوط العمل التي واجهتها مؤخراً. شعرت ببعض الضيق، لأنها كذبت عليهما، لكنها تعلم أنها لا تستطيع أن تصرّح بالحقيقة.
كانت رحلتها هادئة مُيَسّرة، استغرقت قرابة الساعتين، حيث وصلت تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً، توجهت إلى الفندق، وذهبت إلى حجرتها، وأفرغت حقيبتها، تناولت وجبة خفيفة وفنجاناً من القهوة، جلست عند حافة السرير واتصلت بوالديها لتطمئنهما على وصولها، ثمّ ارتدت معطفها وأحكمت لفّه حول جسدها خشية البرد، وخرجت لزيارة بعض الأقارب.
في الصباح الباكر من اليوم التالي، استيقظت على صوت رنين هاتفها، فقد كان عمّار خطيبها على الخط، لم يُطل الحديث معها، فهي مجرّد مكالمة روتينية يطمئن فيها عليها. طلبت فنجاناً من القهوة وخرجت إلى الشرفة، فقد كان صباحاً مشرقاً جميلاً. عادت بها الذكرى إلى سنة فائتة، حيث تطوّعت للعمل في إحدى الجمعيات الخيرية المختصة برعاية الأيتام، وكان عمّار المستشار القانوني للجمعية، تعرفت إليه عن قرب خلال العمل، فرأت فيه شخصاً واثقاً بمستقبله، يتمتّع بخفّة الظل والمرَح والبساطة في التعامُل، من دون تعقيدات، وكان ناجحاً في عمله، فهو يسعى إلى صنع اسم مرموق لنفسه، كان يُعاملها برقة، وأثبت بوضوح ما يتمتع به من نضج الشخصية والإحساس بالمسؤولية.. وفوق كل هذا فهو يحبها بصدق، لهذا لم تتردد في القبول عندما عرض عليها الزواج. وكان قرارها عقلانيّاً حكيماً، على الرغم من الفجوة التي بينهما، فهي إنسانة شاعرية رقيقة تحب الفن والأدب، وهو عَمَلِي جدّاً لا يلقي بالاً لاهتماماتها.
لكنها الآن تشعر بالذنب وتأنيب الضمير لوجودها في هذا المكان، وهَمَّت بالنهوض لحزم أمتعتها والعودة من حيث أتت، لكنها تعلم جيِّداً أنها إن غادرت سيعود الصراع بين قلبها وعقلها لينغص عليها أيامها، وسيُلازمها الشعور بالحيرة والقلق طوال عمرها، فتمالكت نفسها وقررت أن تحسم أمرها. ذهبت لتغتسل، ثمّ ارتدت فستاناً أزرق فاتحاً بسيط التصميم، ومشّطت شعرها الأسود الطويل، ووضعت بعضاً من مساحيق الزينة والعطر من دون تكلّف، ألقت نظرة أخيرة على نفسها في المرآة، تناولت حقيبتها وهي تقول لنفسها.. لقد قطعت كل هذه المسافة فلا تتراجعي الآن.. عليكِ حسم أمورك.. فلطالما عُرف عنكِ المواجهة والحسم. ومع ذلك جلست عند طرف السرير بعد أن تردّدت في الذهاب، فليس هناك داعٍ إلى كل ذلك، وحدّثتها نفسها بأن تعود من حيث أتت وتتقبّل حياتها كما هي، فالحب الصادق ليس له مكان في زماننا الذي يغلب عليه طابع العملية والتصنع. استخرجت قصاصة الجريدة من حقيبتها، التي تتضمّن مقابلة صحافية مع صاحب دار الياسمين للنشر، نظرت إليه مَليّاً ثمّ استجمعت قواها وغادرت الفندق.
توجهت إلى المتجر القديم، الذي يقع بالقرب من سكن الطالبات، الذي كانت تُقيم فيه خلال سنوات دراستها الجامعية، وهو المتجر نفسه الذي اشتغل فيه أحمد. فالحروب الطاحنة أجبرته على ترك بلاده والانتقال إلى هذه المدينة، مُوزعاً وقته بين العمل في المتجر والتحصيل الدراسي. أما يوم الجمعة، فهو اليوم الوحيد الذي يستطيع فيه الالتقاء بياسمين الحبيبة في "مقهى ميس الريم"، قرب مَقَرّ الجامعة التي يدرسان فيها.
تعرفت إلى أبو وليد صاحب المتجر، الذي طعن في السن ولم يتمكن من معرفتها، وكان عليها أن تتحدث معه بصوتٍ عالٍ ليتمكن من سماعها، وبصعوبة بالغة فهمت منه أن أحمد ترك المتجر، وأنّ النقود لها تأثير كبير في النفوس البشرية. غادرت المتجر مستغربة من عبارات أبو وليد المبهمة غير الواضحة، وتوجهت إلى دار النشر التي يديرها أحمد، طلبت من السكرتيرة أن تخبره بوجودها، وكان لديه اجتماع مع أحد الكتّاب، فانتظرت في المكان المخصص للإنتظار ريثما يفرغ من اجتماعه، وسمعت السكرتيرة تتحدث في الهاتف وتقول إنّ صاحب دار النشر الظالم قد سرّحها من العمل، بسبب تأخّرها اليوم في الحضور، من دون أن يلقي بالاً لظروفها الصعبة، وإنّ اليوم هو آخر يوم عمل لها، ولا تعرف كيف تتصرف وكيف ستحل أزمتها المالية.. وفجأةً، سمعت مُشادَّة بين أحمد الذي تعرف صوته جيِّداً وبين الكاتب، كان أحمد يقول للكاتب: إما أن تدفع مقدَّماً أو ليس لك عمل عندي، النقود هي أساس العمل وإلا ليس لي حاجة في العمل معك.. وفتح أحمد الباب ليطرد الكاتب.. فرأته. إنّه هو أحمد بقامته الطويلة، ومنكبيه العريضين، وصوته الجَهوري، وأنفه المعقوف، لكن قسمات وجهه اختفت منها الطيبة والسماحة، لتحل مكانها القسوة والغضب والجشع.. لم تُصدّق ما رأت. لم يَرَها أحمد بسبب انفعاله الشديد، فما كان منها إلا أن خرجت من دار النشر مندهشة، مشت تحت المطر في الطريق الموصل إلى جامعتها تستعيد ذكرياتها، وسمعت صوت المطربة رجاء بلمَليح التي طالما أحَبَّ أحمد صوتها، تغنّي أغنيته المفضّلة، وكان الصوت عالياً منبثقاً من بعيد من "مقهى ميس الريم"، التي شهدت لقاءاتهما قبل عشر سنوات.
"وش ذَكَّرك فيني يللي أنت ناسيني من بعد هذا العمر وش ذَكّرك فيني.. يا ذكريات يا ذكريات العمر فات والحب مات.. وما تقدري يا ذكريات تعوّضي عمري اللي فات".
تَذكّرته عندما كان يُغني لها بصوته الدافئ الحنون.. عندما كان أحمد الحقيقي الذي عرفته شاباً شهماً فتيّاً مكافحاً رقيق القلب، عميق الإحساس.. لم تستطع منع انهمار دموعها التي اختلطت بزخّات المطر، فمهما مَرَّ الزمن، ومهما اختلفت الوجوه، لا يمكن للمرأة أن تنسى الرجل الأوّل في حياتها، لا تستطيع أن تنسى رجفة الحب الأولى التي هزّت كيانها ووجدانها.. فتلك هي الذكريات التي تختبئ في طيّات القلب ولا تُنسى.. عادت من حيث أتت، وقد انتهت حيرتها وصراع العقل والقلب الذي لازَمَها، منذ أن اكتشفت الرسائل التي دأب أحمد على إرسالها خلال السنوات الفائتة، والتي أخفاها عنها والداها لعدم مُوافقتهما على ارتباطها به.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق