كثير من الدول الغربية التي شاركت ومولت فوضى الربيع العربي أخذت في الفترة الأخيرة تتهرب تدريجياً من مسؤوليتها عما يجري في بلدان (الربيع العربي) وقبله ما جرى مع عراق صدام حسين، وأخذت خيوط المؤامرة تتكشف والاعترافات تتوالى من المتآمرين الكبار في واشنطن ولندن وباريس وغيرها من العواصم الغربية، اعترافات عن دورهم في المؤامرة التي بدأت باحتلال العراق وإعدام صدام حسين ثم تم تمريرها على العرب تحت مسمى (الربيع العربي). وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب آخر من فضح ما يسمى بالربيع العربي لأسباب تتعلق بتغيير أدوات وأساليب استراتيجية (الفوضى الخلاقة) الأمريكية في المنطقة وليس الإستراتيجية بحد ذاتها .
نعتقد أنّ المراجعات أو إعادة تقييم الموقف فيما يتعلق بـ(الربيع العربي) والتي تصدر عن الغرب وخصوصاً واشنطن لا تعود لعودة الوعي أو صحوة ضمير، بل لأسباب سياسية وإستراتيجية أهمها :
إنّ واشنطن ودول الغرب ومعهما دول المنطقة التي قامت بدور وظيفي لخدمة الأولين حققوا مراميهم بنشر الفوضى والخراب والدمار والحرب الأهلية وإطلاق مارد الطائفية، وضمنوا أنّه لن تقوم قائمة في المدى القريب للمشروع القومي العربي أو تستعيد عافيتها أية من الدول العربية التي كان من الممكن أن تهدد المصالح الغربية وإسرائيل .
تريد دول الغرب أن تبيض صفحتها حتى تتمكن من العودة للمنطقة كمنقذ ترسو عليه عطاءات إعادة الأعمار التي تقدر بآلاف المليارات، بما يقطع الطريق على المنافسين الآخرين كروسيا الاتحادية والصين .
انتقال الإرهاب من دول الشرق الأوسط للغرب نفسه وما جرى في الأيام الأخيرة في بريطانيا وقبلها في فرنسا كان رسالة واضحة للغرب أنّ السحر أخذ ينقلب على الساحر .
توجه الإدارة الأمريكية الجديدة نحو نقل تجربة (فوضى الربيع العربي) إلى دول أخرى وخصوصاً دول الخليج العربي وإيران، ولكن بأدوات وذرائع جديدة، والقلق أيضاً على دول المغرب العربي .
بالرغم من أنّ الغرب بدأ يعترف بدوره ولو بطريقة غير مباشرة عما يجري في العالم العربي، إلّا أنّ الأنظمة العربية الخليجية التي شاركت ومولت جماعات العنف والفوضى في دول الربيع العربي استمرت تكابر وتعاند الواقع إلى أنّ جاء ترامب وأخذ بابتزازها وتهديدها بالخطر الإيراني وخطر الجماعات الإسلاموية المتطرفة إن لم تدفع ثمن حماية واشنطن لها سابقاً وثمن حمايتها مستقبلاً، وإلى أن أصبح الإرهاب يطرق أبوابها وبدأت تتكشف خيوط المؤامرة التي شاركت فيها دول خليجية وعلى رأسها قطر التي كانت العراب المحلي لهذه المؤامرة .
استشعرت دول الخليج أخيراً أنّ فوضى الربيع العربي ستطرق بابها، وكان من المنطقي أن يحدث ذلك لأنّ جماعات التطرف لا تعترف بحدود سياسية ولأنّ مَن يقف وراءهم ويمولهم يريد أن ينقل الفوضى لهذه الدول حتى يبتزها ويستنزف مواردها، ولكن الأهم من ذلك لأنّ هذه الأنظمة أخطأت عندما قبِلت أن تكون أداة بيد الغرب عندما تحالفت معه ضد نظام صدام حسين (السني)! ثم تحالفت معه ضد نظام بشار الأسد (الشيعي)! وكان تحالفها تحالف التابع وليس تحالف الند، أيضاً لم تُحسن هذه الأنظمة وخصوصاً العربية السعودية التصرّف في إدارتها للحرب في اليمن حيث انتقلت الحرب لداخل بلدانها، وكان في استطاعة واشنطن إن أرادت أن تحسم الحرب في اليمن، بدلاً من ترك السعودية وبعض دول الخليج لوحدهم، ولكن يبدو أنّ واشنطن كانت تريد أن تصل الأمور في اليمن لهذا الحد لتبرز أخيراً كالمنقذ للسعودية من الانهيار .
تعاملت دول الخليج مع أحداث (الربيع العربي) وقبلها مع حرب الخليج الثانية من منطلق مصالحها الخليجية وأحياناً مصالح كلّ دولة على حده وليس التزاماً ودفاعاً عن الأمن القومي العربي أو المشروع القومي العربي، فالدول –عراق صدام حسين وسوريا وليبيا ومصر - التي تم استهدافها من الجماعات الإسلامية المتطرفة بدعم بل ومشاركة من الغرب ودول خليجية هي الدول التي كانت مؤهلة أكثر من غيرها لاستنهاض المشروع القومي العربي وضمان حماية الأمن القومي العربي، ومن المردود عليه الزعم بأنّها أنظمة دكتاتورية، لأنّ الغرب ليس حريصاً على دمقرطة العالم العربي ولأنّ الجماعات الإسلاموية المتطرفة ودول الخليج ليست أكثر ديمقراطية من تلك الدول المُستَهدفة .
ومن هذا المنطلق وبعد أن باتت فوضى الربيع العربي تطرق أبواب الخليج العربي كجماعة متحدة وكدول، فـ(مجلس التعاون الخليج) معرض للتفكك بعد التصريحات القطرية المثيرة للجدل وتسريبات سفير الإمارات في واشنطن، والحرب الإعلامية التي تخطت كلّ حدود بين قطر والإمارات العربية والسعودية واتهام قطر مباشرة بتعاونها مع الجماعات الإرهابية ومع قطر، وأخيراً قطع السعودية والإمارات العربية والبحرين بالإضافة إلى مصر علاقاتهم الدبلوماسية مع قطر، أيضاً هناك بوادر محاولات ضعضعة الأوضاع داخل بعض دول الخليج .
ندرك خطورة الأوضاع وتفاقمها في العالم العربي كأُمّة ومشروع قومي مأمول، أو على مستوى مخاطر مزيد من تفكك الدول القُطرية (الوطنية) القائمة، ولكن نتمنى أن لا تتم مواجهة الخطأ بخطأ أكبر وأن لا تؤدي تطورات الأحداث إلى مزيد من الإضرار بالمصالح والأمن القومي العربي حتى كمشروع مستقبلي .
من هذا المنطلق ليس من حقّ العربية السعودية والدول التي اجتمعت في قمة الرياض 21 مايو 2017 – دون إنكار تفاوت في المواقف بينها - أن تختزل الأُمّتين العربية والإسلامية بهم، فهم لا يمثلون هاتين الأُمّتين، فالعرب يمثلهم رسمياً جامعة الدول العربية، والمسلمون تمثلهم منظمة المؤتمر الإسلامي، هذا ناهيك أنّه حتى على هذا المستوى فالصفة التمثيلية رسمية وحكومية ولا تعبر عن إرادة الشعوب، حيث تفتقر غالبية هذه الدول للديمقراطية، ومن جهة أخرى تتم عملية خلط ما بين أمن الأنظمة العربية والأمن القومي العربي، فكلّ ما جرى في القمة والحديث عن حلف عسكري لمواجهة الجماعات الإسلاموية المتطرفة وإيران إنّما هدفه في الحقيقة حماية أنظمة تآكلت شرعيتها وعجزت عن الدفاع عن نفسها، وكان على الأنظمة العربية أن تستنهض وتُعيد بناء دولها الوطنية والمشروع القومي العربي على أُسس ديمقراطية حضارية بدلاً من المراهنة على واشنطن لحمايتها .
وأخيراً لا نرغب ولا نريد أن تنتقل فوضى الربيع العربي إلى أية دولة عربية أو إسلامية لأنّ الغرب وإسرائيل هما مَن سيستفيد من هذه الفوضى، ولكن نتمنى على دول الخليج ألا تقايض أمنها ومصالحها مقابل التفريط بالقضية الفلسطينية من خلال التطبيع مع إسرائيل والتحالف العسكري معها، لا نريد ذلك ليس من أجل فلسطين فقط بل من أجل دول الخليج نفسها والأُمّتين العربية والإسلامية، لأنّ إسرائيل ومعها دول الغرب لا يعنيهم إلّا مصالحهم، وبذريعة حماية دول الخليج سيعملون على نقل الفوضى لهذه الدول، والمنطقة مرشحة لمزيد من الأحداث الدراماتيكية، والخطورة أيضاً أنّ واشنطن وإسرائيل تعرفان ماذا تريدان ومحصنتان من أي خطر ما دامت المعارك والإرهاب خارج أراضيهما ودون أن تؤثر على اقتصادهم، فإنّ العرب وخصوصاً الخليجيين لا يتحركون انطلاقاً من رؤية ومصلحة مشتركة وأي توسيع للمواجهة ستكون على أراضيهم وداخل بلدانهم ومن أموالهم سيدفعون تكلفة الحرب والمواجهات القادمة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق