• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

شهر الاستقامة

عمار كاظم

شهر الاستقامة

قال رسول الله (ص) في جزء من خطبته في شهر رمضان: "... وتوبوا إلى الله من ذنوبكم وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده يجيبهم إذا ناجوه ويلبيهم إذا نادوه ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه". أيها الناس: "إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم واعلموا أنّ الله أقسم بعزته: أن لا يعذب المصلين والساجدين وأن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين...". الاستقامة في الخط الإيماني والإسلامي والمواصلة على الإيمان هو طموح الإنسان المؤمن بل أسمى طموح ينشده في حياته أن يستمر في التزامه أن يكون مستقيماً في أقواله وأعماله ونياته وعلى كافة المستويات الشخصية والنفسية والاجتماعية والروحية قضية غير عادية بل تحتاج إلى عوامل تديم الحالة الإيمانية وتحولها إلى ملكة في شعور الإنسان ولا شعوره تحصنه من الانزلاق أمام ابتسامات الدنيا والشيطان والهوى فالواعظ النفسي من الداخل وصدق النية المخلصة إضافة إلى توفيق الله عزّ وجلّ ورعايته: (إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف/ 53)، هذه من أهم عوامل الاستقامة وإنّها بالقول لبسيطة ولكنها بالفعل والممارسة هي عملية شاقة تتطلب معاناة وصبراً وإصراراً عليها لذلك يقول الله العظيم في كتابه الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصّلت/ 30). فنحن بالكلام يمكن أن نعلن إسلامنا وربما نعلن إيماننا والإيمان لا يكتمل بالاعلان اللساني بل لابدّ من ممارسة هذه الشعارات المعلنة والتضحية من أجلها لذلك يقول الرسول الأعظم (ص): "الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان" وفي الآية نلاحظ حرف العطف حالة صراع دائم مع الشياطين فما دام هو مستقيم فهو منتصر في الحلبة على الشياطين فاستمرارية الإيمان تعني الاستقامة ومن السهولة بمكان أن نعلن إسلامنا وإيماننا ولكن من الصعوبة البالغة أن نستمر في الحالة الإيمانية فقد ورد في تفسير المجمع حول هذه الآية الكريمة "وقيل ثم استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم"... وبالفعل كثيرون يبدأون بالإسلام والإيمان فالبداية سهلة ولكن الاستمرار حتى نهاية الحياة على الإيمان عملية صعبة لذلك قال رسول الله (ص) لأصحابه حين قالوا له أسرع إليك الشيب يا رسول الله، شيبتي هود والواقعة ذكر ذلك صاحب مجمع البيان أثناء تفسيره لآية الاستقامة في سورة هود قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود/ 112). فإذا كان النبيّ الأعظم (ص) يقول هكذا فكيف بنا، والحقيقة أنّ النبيّ (ص) يريد أن يعلّمنا أهمية لاستقامة والمخاطر المحيطة بهذه الحالة المصيرية بالنسبة للإنسان المؤمن وفي هذا الزمن بالذات حيث يصدق الحديث الشريف عليه القابض على دينه كالقابض على جمر من نار والحقيقة هنالك تراكم من الانحراف وسوء الفهم في ثقافة المجتمع – عموماً – ينعكس على تصرف الناس من الرجال للأشبال والنساء أيضاً فلنوضح الفكرة بمثال تربوي عام، نحن نطمح أن نكون مستقيمين في الحياة ونطلب من المسلمين أن يكونوا مستقيمين سلوكياً أيضاً فلذا نتساءل أين مصادر التربية المنتجة لهذه الاستقامة يقول الحديث الشريف: "كلّ مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه". فالمهم أنّه يولد على الفطرة الصافية ويمكن أن تتوج هذه الفطرة السليمة بالتعاليم الإسلامية والسلوك السوي ويمكن لا سمح الله أن يؤثر أبواه عليه أو بيئته ليلوّثوا فطرته النقية فبدلاً من أن ينشأ النشأة الصالحة في الوسط الصالح ينشأ النشأة السيئة في الوسط السيء فمصادر التربية بالنسبة للإنسان المسلم يتفاعل معها ليكتسب منها ويتقاطع مع دوائرها المحيطة به فالأبوان أوّل دائرة والأقرباء والأصدقاء والجيران والمدينة والبيئة الاجتماعية والمدرسة والتلفزيون والراديو كلّ هذه الأمور ترفد الشبل المسلم بعوامل معينة صالحة كانت أم فاسدة فينمو المسلم في أجوائها ويتأثر بها والسؤال هل أنّ هذه المؤسسات بالفعل تعطي للجيل الصاعد أُسس تربوية صالحة؟ وفي الحقيقة هنالك نوع من غياب التربية الإسلامية من واقع المسلمين وبالمقابل نشاهد انتعاشة التربية غير الأصيلة فالذي نراه تخبط الشاب المسلم منذ الصبا في خضم هذه التيارات حتى نراه يتأقلم شيئاً فشيئاً مع المحيط فيعتبر المسألة الراهنة المنحرفة أمراً واقعياً لا مفر منه ولابدّ من اعتبار المسألة طبيعية. وهنا لابدّ أن نردد هذه الآية المباركة التي تعتبر كبلاسم الشفاء لجروحنا قال تبارك وتعالى: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف/ 18). ومع كلّ ما ذكر يأتي الإسلام بالرغم من هذه الظروف المؤلمة لينزل بمفاهيمه التربوية الصالحة إلى المجتمع بما يلائم مختلف المراحل المتأزمة فالإسلام يمتلك رؤية شاملة للحياة والبشر من دون استثناء ويحاول أن يدخلهم في هذه البوتقة الإيمانية فلا يشل أي عضو بالمجتمع فالمنحرف الفاسق والمجرم المذنب والعاصي والملتوي سلوكياً يفتح الله لهم أبواب رحمته بالتوبة والمغفرة فلم تغلق الأبواب الرحيمة أمام وجوه العاصين بل العكس طرق النجاة والخلاص مفتوحة وسالكة ولكن تحتاج إلى صدق في التوبة وصدق في العودة وصدق في البيعة الجديدة والمعاهدة القلبية مع الله في الابتعاد عن المعاصي والإصرار على الاستقامة رغم مختلف الظروف.. وأفضل الأوقات لإعلان هذه الثورة الداخلية شهر رمضان المبارك الذي يرمض الذنوب أي يحرقها. لذا شرّع الله تعالى الصيام، وأمر عباده الذين أحبهم أن يصوموا لأنّ الصيام كما قال (ع) جُنّة، أي وقاية من النار ومن المعاصي التي تؤدي بنا إلى النار. فشهر رمضان، شهر التقوى والمغفرة، ومن صامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدّم من ذنبه كما أنبأنا رسول الله (ص). قال الله تعالى في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

قد يتساءل المرء عندما يقرأ هذه الآية الكريمة، لماذا كتب الله علينا هذه الفريضة وأمرنا بأدائها شهراً كاملاً في كلّ سنة، ولماذا أيضاً كانت هذه الفريضة عامة في البشر، علينا وعلى الذين جاؤوا قبلنا. فما الحكمة الإلهية إذن من فريضة الصيام؟ ويأتي الجواب من عند الله تعالى في الآية التي ذكرناها ليوضح لنا ربّ العالمين الهدف الذي أراده من فريضة الصيام! (لعلكم تتقون) أجل التقوى التي تدفع الإنسان لأن يأتمر بأمر الله وينتهي عما نها عنه.

وفي ذلك كلّه خير لنا، فالجوع والعطش ليسا هما المقصودان من الصيام فقط. فرُبّ صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش فقط، عن رسول الله (ص) قوله: "من لم يدع قول الزور والعمل به ليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". إنّ الله تعالى يحبّ عبده المؤمن ويحب أيضاً أن ينقذه من الوقوع في المعاصي والمهالك حتى لا يكون مصيره نار جهنم. وقد يغوي الشيطان الإنسان أحياناً، فيتقاعس عن تنفيذ أوامر ربّه ولا يبتعد عمّا نهى عنه. قال تعالى عن الصوم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

فالصيام يهدف إلى تقوية الإرادة ليمتلك الإنسان قدرة حماية نفسه من الانزلاق، وهذه الإرادة تعزِّز حالة التقوى التي تشمل أعمال الإنسان في حياته، وقوله لعلكم تتقون، لارتباط التقوى بأداء حق الصيام بالشكل والمضمون الصحيحين. فالصيام يستهدف تزكية النفوس حتى تتقي حرمات الله وتتجنب مظالم العباد وليس الصيام نافعاً ولو لم يؤد إلى التقوى وهي الفائدة الرئيسية التي يغرسها الصيام في النفوس.

فالعبادات شُرّعت لتهذيب النفوس، وتربية روح المساواة، وروح الاجتماع الذي لا اعتداء فيه، وإذا كانت العبادة لا تحقق تلك الأهداف، فهي ليست عبادة ولا يقبلها الله – سبحانه وتعالى – الصوم مُهذّب للنفوس ورافع لها من مستوى المادة الضيق إلى مستوى الروح والروحانية الواسع الرحب، الذي إذا طُبّق حقّ التطبيق، فإنّ الإنسان لو صام وأكلَ مال الغير أو اغتاب أو غير ذلك، فلا صوم له.. ويكون مصداقاً لقول النبيّ (ص): "كم من صائم ليس له من صومه إلّا الجوع والعطش".

وهكذا تتراكم الذنوب شيئاً فشيئاً مما يؤدي إلى حرمانه نعيم الجنة التي وعد الله بها عباده المتّقين. فالخير كلّ الخير في هذا الشهر مشهور فلنحافظ على هذا الخير في هذا الشهر الذي وصف بأنه شهر الله الأكبر كما وصف بأنّه: شهر التوبة وشهر الطهور وشهر الصيام وشهر القيام وشهر الإيمان وشهر الإسلام وشهر التقوى وشهر التمحيص وشهر الإخلاص.

ارسال التعليق

Top