• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حقيقة وسر العبادة

حقيقة وسر العبادة
◄العبادة بمعنى الخضوع والانقياد، وبهذا المفهوم العام هي حقيقة جارية في كلّ الممكنات، فجميع سكان السماوات والأرض يخضعون لواجب الوجود (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (مريم/ 93)، وبهذا المفهوم أيضاً فإنّ كلّ الكائنات تسبح بحمده إما بلسان الحال أو بالمقال حتى ولو كنا لا نفقه هذا التسبيح (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء/ 44).

إنّ فلسفة هذا التعبد وهي التبعية للسنن والقوانين التي هي مبدأ الخلق مغروزة ومخلوقة في كلّ موجود، وأما العبودية فلها في الإنسان مفهوم أعلى وأكمل، فبالإضافة إلى بعدها التكويني يوجد لها بعد تشريعي وهو أنّها منبعثة من إرادته واختياره.

بمعرفة الله الواحد على أنّه الذات الأكمل المنزه عن كلّ نقص وبمعرفة علاقته بالعالم التي هي الخلق والحفظ والفيض والعطف والرحمة سوف يوجد ذلك في نفس الإنسان رد فعل يحمل اسم العبودية.

وعلى هذا الأساس، يمكن القول في تعريف العبادة إنّها نوع من علاقة الخضوع والثناء والشكر، يقوم بها الإنسان مع إلهه عن معرفة وإحساس وإرادة وإخلاص، ولهذه العلاقة ثلاثة مظاهر: قلبي، عملي، ولساني، وبعبارة أخرى قلبي وقالبي بمراتب مختلفة، وكلّ واحد من هذه الثلاثة له جانب من الأهمية في حال أنّ المنبع والمصدر الأصلي للعبودية ينبغي أن يكون في القلب.

وعلى هذا الأساس فإنّ العبادة هي عروج الروح وانجذابها نحو مبدأ الوجود والكمال والجمال المطلق بحيث يتعلق القلب بالله وينقطع عن غيره، وبحيث يحس الإنسان بذلك بتمام وجوده ويرى نفسه فانياً في الحقّ. وهذا المستوى من العبادة يبقى في عالم الآخرة.

وأمّا في مقام العمل فالعبادة هي حركة اشتياق الإنسان في مسير العبودية والتسليم العملي من أجل الوصول إلى حقيقة المعرفة ومراتب من الكمال لا تتناهى، وكلّ ذلك كامن في حقيقة العبادة.

قال الإمام الصادق (ع): "العبودية جوهر كنهها الربوبية، فما فقد من العبودية وجد في الربوبية وما خفي عن الربوبية أصيب في العبودية".

ومن هنا ذكر الله تعالى فلسفة خلق وتكوين الجن والإنس وسبب إيجادهما فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56).

فقد خلق الإنسان من أجل العبادة، وكوّن وجُهِّز بحيث يكون عنده ميل لها وبحيث تكون هي ضالته في هذا الطريق. ولذا لم تنفصل العبودية عن الهوية الإنسانية، ولم تكن فلسفة الشرائع الإلهية بمفهومها العام الواسع غير العبادة الخالصة للحقّ تعالى، وكان الإنسان أيضاً مكلفاً بذلك في مقام التشريع (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة/ 5). بهذا الترتيب كان (الخلق والأمر) و(التكوين والتشريع) معاً متلازمين ومترافقين يدعوان الناس إلى عبادة الحقّ تعالى.

والعبودية هي الصراط المستقيم الذي عهد به الله تعالى إلى الإنسان كي يقطعه ويبعده عن الشرك وعبادة الهوى والأنانية وحب النفس والحيرة والفساد والضياع، وكي يوصله بسير صاعد إلى المقصد الأعلى.

 

العبادة والتقرب:

من أجل ذلك نحن نعلم أنّ العبادة مشروطة بقصد القربة، وحقيقة القرب هنا أوسع من القرب الزماني أو المكاني أو الاعتباري، بل هي القرب المعنوي، ونفس ذلك الفناء في الحقّ والذوبان بحرارة الإيمان والانقطاع عن التعلقات، وكلّ ذلك له درجات عديدة مختلفة. فإذا ما وصل عبد إلى واحد من منازل القرب إلى الحقّ واتخذت العبودية والخشوع في نفسه لها شكلاً، وحصلت حالة الملكة عنده وانصبغت جوارحه وجوانحه بصبغة إلهية فإنّه يتجه إلى مظهر صفات الله والعدل والرحمة والخير والفضيلة والطهارة، وترك كلّ ما هو موجب للبعد عن الله تعالى حيث أنّ حقيقة التهذيب والأخلاق في الإسلام ليست غير ذلك، وقد ورد في الحديث القدسي: كلما تقرب إليّ عبدي بالنوافل أصبحت عينه وأذنه ولسانه ويده.

فالسالك إلى الله إذا وضع حظوظه بل نفسه والعالم تحت قدمه وأخلص نفسه عن رؤية الغير والغيريّة ولم يسكن في قلبه سوى الحقّ، وأفرغ بيت الله من الأصنام بيد الولاية وأخلاه من تصرف الشيطان، يكون دينه وعمله وباطنه وظاهره خالصاً للحقّ والحقّ تعالى قد اختار ديناً بهذه الصفة لنفسه.

 

العبادة وإصلاح الإنسان:

الهدف من العبادة هو تربية الإنسان الكامل، وكلّ طريق يصل إلى مرحلة من الكمال بمقدار إدراك ومعرفة حقيقة العبودية والقرب. والعبادة والدعاء يربطان القلب بالله. ويغذيان الروح ويدفعان الجوارح للتسليم أمام النفس القدسية والمتكاملة.

كلما تدرج الإنسان في مدارج العبودية واقترب أكثر من الكمال المطلق ومبدأ العز الربوبي. كلما أخذت أعماله وجهاً إلهياً أكثر، ووجد جوهره الإنساني وتخلص من أسر النفس الأمارة. وبتفوقه على العالم المادي وخروجه عن حيز الزمان والمكان وارتباطه بالمبدأ الإلهي. فإنّه سوف يتخلص من الفناء والزوال ويصبح خالداً. في هذه الحال فإنّ عبادته ومناسكه سوف لن تكون خالصة لله فقط بل إنّ كلّ وجوده وحياته ومماته سوف تأخذ لون التعبد: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 162).

في هكذا حالة سوف يفهم الإنسان فلسفة خلقه. ومتفاعلاً مع أطراف الوجود الأخرى المسخّرة للحقّ والمسبِّحة له. سوف يطوي المسير من أجل الكمال الذي اختاره الله له بكلّ حرية ووضوح وعزم ثابت، وسوف يفني أعماله وأخلاقه وإرادته وتصميمه في إرادة الحقّ. وسوف يقي كلّ لحظات حياته في مسيره إلى القرب الإلهي. وسوف يلاحظ في علاقته "بنفسه والناس والعالم المحيط" أنّ الدور المحوري هو "الله". ومن حيث أنّ "التربية الأخلاقية" تتخذ لونا إلهياً. فإنّ الإنسان المتخلق بالأخلاق الإلهية يهرب من كلّ ما له لون نفساني وشيطاني حتى يصل إلى "الولاية الإلهية المطلقة"، إلى مقام العصمة الخاص بالأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ويرتقي بالتالي إلى العصمة التي هي للأولياء.

وفي نفس الوقت، عندما يكون الإنسان محكوماً للأنانية وعبادة الهوى فإنّه يبتعد عن مقام العبودية والإنسانية، ويهجر منزل القرب ويُدفع إلى "أسفل سافلين".

إنّ من أكبر أسرار العبادات والرياضات الشرعية هو أن تجعل الجسم وقواه الطبيعية تابعة ومنقادة للروح بحيث يكون للإرادة دور مؤثر في الجسم ويخضع الجسم لأوامر الإرادة فيعمل بما تشاء، ويمتنع عمّا تشاء، ويصبح مُلك الجسم وقواه الظاهرة مقهوراً ومسخراً للملكوت بحيث أنّه يقوم بما يريد من دون مشقة ولا عناء.►

ارسال التعليق

Top