• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حُب الله يعلو كل حب

حُب الله يعلو كل حب

◄الحب هو تلك النعمة الإلهية التي تنطوي في ماهيتها على سر الخلق، وحقيقة الاستخلاف الإلهي للإنسان، وتظهر للعيان في مصاديق ونماذج متنوعة ومتعددة، فهو طعم الدنيا، وسبب الشغف بها والتعلق بمظاهرها، وبه تستمر الحياة، وتتلون صفحات الأيام والساعات، وتتعطر بشذاه أرجاء معابر المسافرين في قافلة الوجود، حتى كأنّه نور ظلمات النفس وبهجة القلوب وحياتها، ونغمة نبضاتها، وإيقاع دقاتها،... ولقد قال الإمام الصادق (ع): "هل الدين إلا الحب"؟!!

فما هو ذلك السر الإلهي الذي أودعه سبحانه وتعالى في خلقه؟

 

ما هو الحب؟

الحبّ إحساس داخلي فطري مغروس في أصول النفس البشرية وله قابلية النمو، إذا واتته الظروف، وهو دائماً ينمو من الداخل... فهو وإن كان يتأثر بعوامل خارجية، إلا أنّه يتفاعل معها من خلال كوامن النفس الداخلية...

الحب هو الانجذاب الوجداني إلى القيمة المثلى لدى الإنسان المحب، وقد تكون تلك القيمة مبدأ أو هدفاً، وقد يكون الحب هو ذلك الانجذاب إلى الخالق الذي تعتقد النفس بصدق؛ بصفاته الجمالية، أو إلى المخلوق الذي يكون مظهراً لبعض تلك الصفات الجمالية...

الحب هو ألذّ ما في عالم المعنى، وقد روي عن أمير المؤمنين عليّ (ع) أنّه قال: "حب الله ألذّ ما في الآخرة". أما بالنسبة للبشر، فالحب هو تعلق الروح بالروح، واشتباك النفس بالنفس، دون النظر إلى جمال جسد، أو حسن مظهر، ونظراً لعمق مفهوم الحب، وشدة التصاقه بجذور النفس، فقد وجد العلماء صعوبة بالتعبير عنه وتعريفه بألفاظ ذات دلالة محددة، فلجأوا إلى حاسة الذوق الأدبي واستعانوا بعبارات أهل العرفان والتصوف فقالوا:

الحب هو الميل الدائم بالقلب الهائم.

الحب هو إيثار المحبوب على جميع المصحوب.

الحب هو موافقة الحبيب في المشهد والمغيب.

الحب هو ذوبان في المحبوب، حقيقته أن تهب كلّك لمن أحببت، فلا يبقى منك شيء.

والحب هو حالة من الهيام والوجد والشوق يكون فيها المحبوب أقرب إلى المحب من روحه.

 

أنواع ومصاديق الحب:

الحب حقيقة واحدة يمكن أن نعبر عنها بمفاهيم مختلفة، ومهما تبدلت الألفاظ وتنوعت فإنها تعبِّر عن حالة واحدة يعرفها المحبون الذين يكتوون بجمارها. وتنوع المفاهيم ناشئ ليس فقط من قصور الفهم عن إدراك حقيقة الحب، بل من تنوع مصاديق الحب تبعاً لتنوع البشر وأخلاقهم وصفاتهم...

بناءً على ذلك يمكن ملاحظة أنواع عديدة من الحب أهمها:

النوع الأوّل: الحب الوهمي: وهو الحب الذي ينطلق من صورة ذهنية وهمية لا مكان لها في الحقيقة، كمن يعتقد أنّ الفتاة تحبه ويسهر الليالي في حبها وهي لا تحبه.

النوع الثاني: الحب الخلاب أو الحب الخادع: وهو الحب الذي وصل إلى الخلب وهو الحجاب الذي بين القلب وسواد البطن، وسمي الحب خلابة لأنّه يخدع الباب أربابه، والخلابة: الخديعة باللسان، يقال: خلبه يخلبه واختلبه، وفي المثل: إذا لم تغلب فاخلب، أي فاخدع.

النواع الثالث: الحب الحقيقي: هو الحب المنسجم مع كيان الإنسان وهو الحب المنطلق من حب الله.

كلّنا ننشد الكمال وننجذب فطرياً إليه، ولذا فكلنا له شوق للوصول إلى الله... وكلّنا نقدم في الغالب حب الوطن على حب الله، أو حب الأصحاب على حب الله، ومنا من يقدم حب المال على حب الله...

أمّا الحب الصحيح، للأولاد والوطن والزوجة وغيرها، فلابدّ أن يتفرع من حب الله سبحانه وتعالى، حتى لا يطغى ويخرج عن حقيقة دوره الذي أراده الله له.

والحب في حقيقته سلطان، ولذلك فهو فوق القانون... وفي هذا علينا أن نعلم أن روح المحب تعيش في جسم من يحب، ولذا فإنّ المحب يتنمذج بمحبوبه لا إرادياً، فالمحبوب يسكن قلب المحب، وينصب عرشه في قلبه...

 

أين يقع حب الله:

حب الله هو أعلى أنواع الحب، وقمة الهرم الإيماني، فمتى أحب العبد ربّه ترك ما لا يرضيه وسار على درب الصلاح الذي رسمه له، وابتعد عن المعاصي، فمن أحب الله بحق أطاع أمره واتبع شرعه، ومن هنا فإنّ المخالفة والعصيان دليل كذب المحبة أو نقصانها.

ولذا، فطريق حب الله تعالى يتمثل في ترك المعاصي، مع الحرص على أداء الفرائض، والإكثار من النوافل، فهو طريق عملي إذن، وقد قيل: "مَن أراد أن يعرف ما له عند الله فلينظر ما لله عنده، فإنّ الله تبارك وتعالى ينزل العبد منه حيث أنزله العبد من نفسه" ومن أوفى بهذا الحب نال محبة الله، ويا لها من كرامة إذا حصلت.!!!

 

حب الله يعلو كلّ حب:

إنّ الطاعة والعبادة هي التي تميز حب الله عن حب الآخرين... ومعنى هذا الشيء إنه: "إذا اقتنع الإنسان بأنّ العبادة من الأمور الهامة، وأنها أكثر أهمية بالنسبة إلى الأمور الأخرى – بل لا مجال للمقارنة بين العبادة والأمور الثانية الأخرى – لحافظ على أوقات العبادة وخصص لها وقتاً".

 

أين نحن من حب الله:

لقد بذلنا  كلّ طاقتنا في حب وهمي، في حب الدنيا وحب الشهوات وحب النساء وحب العمل وحب المال وحب الدراسة وحب المغنين والمغنيات، فجعلنا قلوبنا مساكن شعبية لكل شيء في الدنيا، وأسكنا فيها من هبّ ودبّ بغير حساب، فتزاحمت الأشياء في هذا القلب، وما عاد يتسع، وطغى ذلك على حب الله ورسوله، فتركنا ما هو أعظم من ذلك وهو حب الله، فأين نحن من الحب الأسمى والأرقى؟

من هو الحبيب الذي ليس بعده حبيب؟

أليس الله أحق بالحب الأوّل من أي حب؟

إذا طلب منك أحد أن تقول ما هو الحب الأوّل في حياتك بدون تفكير... فهل سيكون الجواب هو الله؟!!

نتمنى أن يكون الجواب نعم، وليس أي نعم، إنما هي التي تقولها بالقلب والإحساس والعقل والفعل.

تخيل لو أنك تحب أحداً من البشر وهو أيضاً يبادلك الحب؟

تخيل لو أنك تحب الله وهو سبحانه يبادلك الحب؟

أيهما تفضل أن يكون هو حبك الأوّل واختيارك؟

وشتان بين المفاضلة...

إنّ حب الله ليس قبله حب، وليس بعده حب.

 

مصاديق حب الله:

أكمل مصاديق الحب الحقيقي هو حب الله.

حب الله للإنسان، وحب الإنسان لله – ما العلاقة بينهما؟

حب الله هو قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام. إنها المحبة التي ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب.

قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/ 24). وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (البقرة/ 165).

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة/ 54).

الله تعالى يتكلم أوّلاً عن الذين يحبون الله.

فالآية تشير إلى حقيقة، وهي أن من يتبادل الحب مع الله تكون صفاته هي التالية:

1-    العزة على الكافر.

2-    الإلفة والتواضع مع المؤمنين.

3-    حب الجهاد في سبيل الله.

4-    عدم الالتفات إلى تثبيط المثبطين ولوم اللائمين.

ومن يحب الله لا تأخذه في الله لومة لائم... لأنّه يعلم أنّ النصر حليفه بما آتاه الله من مقومات معنوية، وما أعده له من مقومات مادية.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمّد/ 7).

وهذه سنة إلهية وقاعدة سننية، والقاعدة السننية هي المعادلة التي لا تتخلف ولا تتغير ولا تتبدل، قال تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) (الفتح/ 23)، و(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا) (فاطر/ 43).

وهذه سنة شرطية...

والسنة الشرطية هي المعادلة التي تتحقق بتوافر شروط معينة، وتكون مؤلفة من شرط وجزاء.

أما الشرط فهو بيد الإنسان وأما الجزاء فهو بيد الله.

والشرط بيد الإنسان نظراً لامتلاكه ثلاثة عناصر مهمة وهي:

1-    الفكر

2-    الإرادة

3-    العاطفة.►

 

المصدر: كتاب الحب والجمال

ارسال التعليق

Top