• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

معوقات نمو القدرات الإبداعية

معوقات نمو القدرات الإبداعية

◄تتزايد حاجة المجتمعات لازدياد التعبير والعمل الإبداعيين لدى أبنائها. ونحن لا نقلل من الحاجة إلى الاتجاه الإبداعي لدى أساتذتنا وطلابنا والمشرفين على الأجهزة الإدارية والتجارية والسياسية، وإنّه لمطلب من مطالب التطور الفردي والاجتماعي والإنساني أن تشتعل شرارة الخلق في كلّ فرد.

ولكن من المؤسف أن نجد هناك عوامل متعددة تعوق التعبير عن هذه الحاجة، وبالتالي لا تسمح للقدرات الإبداعية أن تنمو بالشكل الذي يريده المجتمع أو الفرد ذاته. هذه العوامل بعضها داخلي يتعلق بالشخص ذاته، وبعضها خارجي يتعلق بالواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد وما يفرضه من ضغوط مقصودة أو غير مقصودة لإعاقة انتشار التفكير الإبداعي.

1- معوقات شخصية: من ناحية الشخصية تبيّن أنّ هناك خصائص يرتبط ظهورها بانخفاض القدرات الإبداعية، مما يدل على أنّها تعوق ظهور القدرات الإبداعية وتقلل من نموها. من هذه الخصائص الميل للانصياع أو المجاراة العقلية وهو مفهوم يشير إلى ميل بعض الأفراد لتبني الآراء والأحكام التقليدية الشائعة، مع التعلق بالآراء والحلول التي تقبلها البيئة الاجتماعية المحيطة دون النظر إلى قيمتها الحقيقية أو إلى كفايتها.

ويؤدي المستوى المرتفع من هذه الميول إلى عرقلة التفكير وتقييده وتوجيهه وجهة ضيقة ومحدودة لا تسمح بالانطلاق والمخاطرة التي يتطلبها العمل الإبداعي.

كذلك درس الباحثون الذكاء وبيّنوا أن انخفاض مستوى الذكاء يعتبر من العوامل الشخصية التي تعوق ظهور الإبداع وتنميته، إلّا أنّ الارتباط بين الذكاء والإبداع ليس مرتفعاً ارتفاعاً ملحوظاً، والأرجح أنّ القدرة على الإبداع تحتاج إلى حد معين متوسط من الذكاء.

أما في المستويات المرتفعة من الذكاء فإنّ الاتجاه نحو الإبداع يتوقف على ظروف الشخص نفسه؛ فبعض المرتفعين في الذكاء يفضل توجيه ذكائه إلى النشاطات العقلية أو الاجتماعية المأمونة والتي لا تتطلب بالضرورة خلقاً وابتكاراً، أما بعضهم الآخر فقد يختار طريقاً مختلفاً يتميز بالإبداع والانطلاق. وعموماً فإنّ الذكاء ضروري للحد الذي يمكِّن الشخص من تكوين المفاهيم ومعالجة الرموز والأشياء بصورة معقولة. كذلك إنّ التصلّب في التفكير يشير إلى عجز الفرد في التعامل مع النظم العقلية الجديدة، وعجزه عن تنظيم معتقدات جديدة وحلول مختلفة للمواقف والمشاكل المتغيرة. وهي من العوامل التي تكف إمكانيات الأفراد عن تعلم الجديد والاستفادة من الخبرة وهي أشياء ضرورية للإبداع.

كما أنّ هناك عدداً من الاتجاهات الاجتماعية والعقائد الفكرية التي إن وجدت لدى طائفة من الأشخاص فإنّها تكف وتعوق الإبداع؛ منها الاتجاهات التسلطية التي تشير إلى انشغال الفرد بأفكار القوة وفرض السيطرة والتمسك المتطرف بالمحظورات التقليدية والشكلية. فمثل هذه الاتجاهات تشكل عملية معارضة تماماً للاتجاه الإبداعي الذي يتطلب قدراً كبيراً من الانطلاق في الرؤية، والتحرر من الشكل، والنفاذ إلى الأساسيات الملائمة لحل المشاكل، بغض النظر عن كونها صادرة من مصادر أقوى اجتماعياً أو سياسياً أو غيرها.

ومن الناحية الوجدانية فإنّ هناك نظريات نفسية تثبت أنّ زيادة الصراعات النفسية والقلق والأمراض النفسية تعوق ولا تشجع الإبداع. وعلى العكس يرى "فرويد" أنّ المبدع إنسان تسيطر عليه الإحباطات، ويعجز عن التعبير عن غرائزه الجنسية؛ ولهذا يتجه للإبداع كبديل، أو إعلاء لما فقده في الواقع. إلّا أنّ الدراسات الحديثة تدحض هذا الرأي وتقول: إنّ مجرد وجود بضع حالات من الانهيار والتوتر النفسي في حياة المفكرين أو المبدعين لا يعني أنّ حياتهم هي كذلك في عمومها، كما لا يعني أنّ الاضطراب النفسي الشديد هو السبب في توليد العبقرية.

والأصح أن نقول: إنّ هؤلاء المبدعين الذين أصيب بعضهم بحالات من الاكتئاب النفسي الشديد والمرض قد استطاعوا الاستمرار في إبداعهم بالرغم من اضطرابهم وليس بسببه.

فضلاً عن هذا هناك دراسات تبيّن أنّ النجاح في مجال الإبداع والكفاءة العقلية يكون مصحوباً بخصائص لا يرتبط بالمرض النفسي مثل الاستقلال والمبادرة والتلقائية وحرّية التعبير مما يدل على أنّ المبدعين نمط راقٍ من العقل والمقدرة النفسية.

2- معوقات اجتماعية: ما هي المظاهر الاجتماعية والظروف الخارجية التي إن شاعت عاقت التعبير الإبداعي عند أفراد المجتمع، وأدت إلى تضاؤل عدد المفكرين وقلة الابتكارات والخلق؟

للإجابة على هذا السؤال قدم الباحثون دراسة عن الشروط الاجتماعية المختلفة التي يؤدي وجودها في المجتمع إلى تقلص الفكر الابتكاري والكشوف والمخترعات.

ومن هذا تبيّن وجود من القيم والاتجاهات تشيع في بعض المجتمعات لا تساعد على خلق مناخ اجتماعي إيجابي يساعد على تشجيع الإمكانيات الإبداعية. منها تلك القيم التي تشجع على النجاح السهل والحصول على القوة والمركز الخارجي. وفي المجتمعات العربية بشكل خاص يلاحظ أنّ المؤسسات الاجتماعية العامة خاصة المنظمات التعليمية والجامعية لا تعمل بنشاط في اتجاه تحقيق أهدافها العامة التي تتطلب روح الاستقلال والابتكار والتعبير النشط عن التفكير.

ومن المؤكد أنّ جزءاً كبيراً من هذا الفشل لا يعود إلى ضعف الإمكانيات المادّية أو التجهيزات الحديثة بقدر ما يعود إلى سيادة المناخ الاجتماعي الذي يشجع على البحث عن الهيبة الخارجية والمركزة والقوة؛ ويؤدي هذا إلى أن يتولى الوظائف الإشرافية أو القيادية في داخل المؤسسات المختلفة أشخاص ذو خصائص لا تتناسب مع أهداف البحث العلمي والتفكير الإبداعي.

ويتفق الباحثون الاجتماعيون على أنّ جزءاً كبيراً من المجتمعات النامية يكمن فيما تؤدي إليه مؤسساتها التعليمية والصناعية والاجتماعية المختلفة من إشاعة أجواء واتجاهات خاطئة أو بسبب تضييقها لفرص التفتح والنمو أمام الأشخاص. وهناك أمثلة متعددة للأخطاء الإعلامية فهي تساعد على نشر قيم خاطئة من خلال برامجها وقصصها تقوم على الوعظ المباشر وتمجيد النجاح الاجتماعي السهل؛ ويؤدي هذا في النهاية إلى إشاعة قسمٍ ومُثُلٍ لا تحترم الخبرة الخاصة والعقل والفردية.

وهناك نقطة أخرى تتصل بنظم العلاقات الاجتماعية داخل المؤسسات، فقد تبيّن أنّ بعض المؤسسات تقيم نظاماً وظيفياً هرمياً متصلباً، لا يستطيع المرؤوس من خلاله إلّا أن يتحرك بتوجيه من الرئيس الأعلى وبأقل قدر من الاتصال المباشر، بل من خلال سلسلة من الدرجات والوظائف الوسيطة. وهناك استياء عام بين العلماء الاجتماعيين من تأثير التنظيمات الهرمية المتصلبة هذه.

ومن المعروف أنّ العلاقات الاجتماعية في ظل المؤسسات ذات النظام الوظيفي الهرمي تتعارض مع تلك المطلوبة لخلق مناخ اجتماعي يقبل الإبداع ويشجع على الابتكار.

وفي دراسة أخرى من نوع الإشراف المرتبط بالإنتاج العلمي المرتفع تبيّن أنّ أفضل أنماط الإشراف المرتبطة بالبحث العلمي هي تلك القائمة على التفاعل الديمقراطي بين المشرف والباحث فتكون لدى الباحث الحرّية في اتخاذ القرارات، ويكون المشرف من النوع الذي يحث ويشجع ولا يقوم بالتوجيه.

أضف لهذا أنّه كلما امتازت العلاقات الاجتماعية بالدفء والاتصال الإنساني الطليق بين الفئات المختلفة في داخل المؤسسة العلمية كلما ازداد المناخ الاجتماعي اتساعاً نحو ظهور الإمكانيات الإبداعية وانطلاقها.

ولكن يجب ألا يتعارض ذلك مع المعايير الأكاديمية والفكرية المطلوبة للعمل أو البحث الجيد. وعندما تكون معايير هذه الجماعة معايير عقلية فإنّها تدفعه للتجديد في الإنتاج والعمل، بالإضافة إلى أنّها تدفعه لتقدير الأفكار الإبداعية الجيدة عندما تظهر لديه، أو عندما تظهر لدى زملائه.

إذاً، هناك بالفعل مجتمعات يكون من شأنها أن تفتح الفرص أمام المبدع وتشجعه على إشباع احتياجاته العقلية والتعبيرية ولا تقيِّد اختياراته في العمل والدراسة وحرية البحث والتعبير. فضلاً عن هذا فقد تبيّن أنّ تعرُّض المجتمع وتفتحه على الحضارات المختلفة، حتى وإن كانت معارضة في قيمتها واتجاهاتها، لا يقل شأناً من حيث ما يتركه من آثار منشطة على البحث وحرّية التعبير الفني والأدبي والابتكار.►

 

المصدر: كتاب الإبداع.. ذروة العقل الخلاق

ارسال التعليق

Top