إنّ الذين لا يعرفون محاكاة الأشجار يظنون الغابات صامتة. أمّا أنا، وقد ترعرعت في أحضان طبيعة سماؤها الأغصان وأرضها الجذور؛ فأعرف خبيئتها وأسرار لغتها.
لقد تعلّمت الإنصات إليها، أسمع حفيف الأوراق وأراقص الأغصان وأسامر الجذوع... أهامسها إن هي همست وأردّد معها إن هي دندنت وأربت عليها إن هي لمست. أوتتعجّبون؟ حسناً... قفوا معي وسط الغابة، صفّروا، صفّروا جيدًا كأنّكم عصفور.. أنصتوا جيداً! أتسمعون صوت الأشجار؟ هذا صوت تثاؤب كأنّ أحدهم استفاق من نومه للتوّ... وهذا صوت شهيق تليه مجموعة من الأصوات المختلفة: دقّات سريعة ومنتظمة كأنّ قلبًا ينبض في مكان ما من الأرض... أتجذبكم طقطقات الأغصان وهي تنتصب، وحفيف ارتجاف الأوراق، أم الهمس المكتوم للحاء الجذوع وتمدّد الجذور؟ تلك الأصوات على تنوّعها هي أشبه بحروف هائمة على وجهها في الهواء بانتظار مَن يفك شيفرتها ويعيد تركيبها... عندها ستعرف كيف تحاكي الأشجار، وعندها فقط ستتمكّن الأشجار من رؤيتك.
فالأشجار ليست عمياء بل تملك عيوناً في كلّ مكان، لكنّها لا تفتحها أمام الغرباء؛ فهي تخافهم وتخجل منهم. أنا تعلّمت كيف أجعلها تفتح عيونها لتراني وتطمئن إلي، تحدّثني وأستمع إليها... يكفي أن أقف وسط الغابة وأصفّر بصوت خافت وجميل؛ عندئذ أرى الأشجار وهي تفتح عيونها ببطء كالحلزونة. أتعلمون؟ إنّ عيونها متعددة الألوان: صفراء وحمراء وخضراء وسوداء وزرقاء.
كما أنّ لكلّ منها نظرة خاصة بها، فنظرة شجرة البلّوط ثاقبة وجديّة، نظرة واحدة منها قادرة على جعلك ترتعش. إنّها الشجرة التي لا تنفكّ تنظر ليلًا إلى السماء، لذا فهي تعرف كلّ أسرار القمر والنجوم. أمّا شجرة الحور فنظرتها مرحة تشعّ بالحياة، تحبّ أن تلهو مع الشمس وانعكاساتها على الأشجار الأخرى. هناك أيضًا شجرة الأرز، هي أكثر الأشجار ثرثرة، لأنّها لا تنفكّ تخبر القصص القديمة والحكايات التي مرّت في حياتها. هناك أيضًا أشجار الغار وأشجار الجوز واللوز والدلب والصفصاف والتين والزيتون.
وهناك أشجار السرو التي تفضّل الصمت في معظم الأحيان، وإذا تكلّمت، فلا تكثر الكلام؛ فهي تحرس الغابة... عندما يقترب غريب منها تبدأ بهزّ أبرها ويصدر ذلك صوت حفيف كأنّها ستمطر؛ وهذا إنذار إلى عائلة الأشجار... إنذار بوجود خطر... فتصمت كلّ الأشجار وتصبح في حالة تأهّب... ثمّ تغمض عيونها وتنسدل أغصانها وتتظاهر بأنّها في عداد الأموات... بانتظار صديق آخر ومحاكاة جديدة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق