◄ترى ما هي عواقب اتخاذ قرار التخلي عن هاتفك الذكي في مجتمع مشحون بفيض لا نهائي من الإرسال والاستقبال الرقمي؟ كيف لأي شخص في الكويت، أو في أي نظام اجتماعي آخر، أن يقتطع نفسه من مجتمع يتطلب منه البقاء محقوناً بتيار رسائله المتدفقة لأربع وعشرين ساعة يومياً؟ إلى درجة تنزع منك القدرة على التمتع بأبسط مبادئ تلك الحياة: أن تبقى وحيداً. كلّ منا اليوم يشعر بأنّه بمنزلة نهاية عصبية على سطح اجتماعي شديد الحيوية لا يكف عن النبض.
أن تعيش في مجتمع يحترف ثقافة الاستهلاك فإنّ ذلك يتطلب منك مهارة فائقة لتجنب الضغط الاجتماعي الذي يصبه عليك أفراد العائلة أو الأصدقاء أو زملاء العمل بالانضمام إلى البرنامج الهاتفي الفلاني، أو التطبيق الهاتفي الأخير، أو الصرعة التواصلية الحالية. ما بين طفح الأثير بمحادثات الـWhatsapp وازدحام الساحة الأيديولوجية بالهتافات عبر Twitter، وغمر القرنية بلقطات الـInstagram، أنت ضائع في اللحظة.
في بدايات الألفية، عقّب عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي توماس زانجوتيتا، أنّ المستهلك البشري صار ببساطة يفتقد الإمكانية لتثبيط حواسه، في خضم غزارة الرسائل الإعلامية التي تقابلها حواسه خلال رحلة بسيطة في أي شارع من شوارع المدينة، وخصوصاً بعد عهد الثورة الصناعية.
ستة عقود طويلة من الزمن مرت على هذه البلاد منذ قدوم أوّل جهاز هاتف إلى الكويت على يد التاجر محمّد حسين آل معرفي، حين باشر في استخدامه للتواصل من موظفيه في متجره بسوق التجار ضمن مساحة متواضعة. انطلاقاً من تلك النقطة في تاريخ الشارع الكويتي، شاعت الألفة شيئاً فشيئاً بين المواطن الذي بدأ يعيش نهضة اقتصادية، وبين مختلف رفاهيات القرن العشرين التقنية، وانتقل المواطن بثقة من هواتف المنازل، إلى هواتف السيارات، إلى هواتف الجيوب. واليوم يعيش المواطن الكويتي ضمن روتين يومي على درجة من السرعة يتعذر معها استيعاب ما يدور حوله، وكأن البّلد قد تحور إلى شيء لا يشبه ما كان عليه في بداية الألفية... إنّه يعكس صورة أخرى مبهمة... نظام اجتماعي متذبذب. وكأنّنا في كلّ عقد أو اثنين نتحور بالكامل ونغادر إلى هويات جديدة... وعلى ما يبدو لا شيء جسّد تلك الزعزعة في الهُويّة المحلية بقدر ما كشفته لنا وسائل التواصل الاجتماعي ما بين نرجسية حمى تصوير "السيلفي"، أو تغريدات تعرّي عصبياتنا الاجتماعية، أو شباب أصبحوا بين ليلة وضحاها قادة رأي في الأوساط العامّة، دون أي كفاءات تذكر، أو فتيان يمنحون مباركاتهم لسلعة أو خدمة تجارية، أو مئات المستخدمين الذين خلقوا من هواتفهم متاجر افتراضية.
اليوم تعيش تكنولوجيا الاتصال دورة حياة شديدة النشاط، يصفها المفكرون بظاهرة "التحفيز الأوتوماتيكي"، أو (autocatalysis). ويكمن الخلاف في أنّ التطور التقني اليوم ليس منوطاً بحاجة معينة تتطلب إضافة ميزة جديدة على نماذج قديمة. على العكس من ذلك، التطور التقني اليوم يطرأ بلا سبب، الأجهزة تتطور من تلقاء ذاتها لأنّها ببساطة تتطور، ونحن لا يكاد يسعنا اللحاق بها. السؤال هو: مَن منا أمضى ثواني للتفكير قبل ابتياع آخر تحديث لجهاز الـiPhone؟ بعد أشهر مفعمة بالترقب، جميعنا سارع لامتلاك الجيل السادس فور وصوله إلى السوق.
قياساً على ملاحظات المفكر السعودي عبدالله الغذامي، بإمكاننا اليوم الجزم بأن آلية التواصل الإنساني المباشر بين شخصين، كانت المداولة الشفوية كأداة رئيسة، وتم استبدالها بتواصل يتحكم به الإبهام على شاشات اللمس، بعملية تواصل تباعد الاستقبال فيها عن الإرسال أكثر فأكثر، وشغلتها محطات عديدة من التنقيح والتنقية والرقابة. بينما زادت في الوقت نفسه عبرها جرأة الطرح، مع ضمان الأمان النسبي خلف شاشة الهاتف. اليوم في الكويت يبدو أنّ هواتفنا الذكية قد حورت ممارسة التلاقي الإنساني بأبسط مفاهيمه، حيث صرنا ننظر إلى شاشات هواتفنا لاستقبال إشارات هذه الحياة، بدلاً من النظر في عيون بعضنا. يتوافق ذلك مع ما يسميه الإعلامي البريطاني تشارلي بروكر ظاهرة "المرآة السوداء"، أسطح داكنة عاكسة من خلال هواتفنا وأجهزة الكمبيوتر الشخصية، نكاد لا نقوى على الهروب منها في كلّ مناحي حياتنا.
مَن يتأمل طبيعة الحياة في المجتمع الكويتي أو الخليجي اليوم، يستنتج أنّ أحد المفاهيم التي تمت إعادة صياغتها تماماً مع قدوم العصر الرقمي Digital هي "الصورة". خلال أحد لقاءاته على إذاعة بي بي سي البريطانية، علّق المخرج الشهير ألفريد هيتشكوك بأنّ الدراما هي الحياة "حين نستقطع منها الأحداث المملة".
مَن يتأمل كثرة الصور التي تلتقطها هواتف الجميع اليوم، يستنتج أنّنا نعيش في واقع يحاول الجميع فيه أن يرسم لروتينه اليومي طابعاً جذاباً، وكأنّ حياته هي نسق من المغامرات والأسفار والطرائف التي يختزلها عبر الـWhatsapp أو Instagram، فأصير أنا موجوداً في واقعين متوازيين، أحدهما أكثر إثارة من الآخر... أحدهما مادي والآخر افتراضي. في هيئتي الافتراضية، هنالك "أنا" كما أريد أن يراني الناس، معدل، مستحدث، محور... في الصور والتسجيلات الصغيرة.
ومن هذا المبدأ، تنطلق ظاهرة الـSelfie، التي تعكس نرجسية صورة يلتقطها شخص يرغب في التحكم بمحيطه البصري بالكامل. على عكس التقليد الاجتماعي السابق، الذي كان يتطلب أن يلتقط صورتك شخص آخر. الـSelfie في المقابل هي استراتيجية بصرية يسردها صاحب الصورة نفسه من منظوره، نابعة من رؤيته للعالم، هي اقتصاص من الحياة كما يراها هو، شديدة البعد عن الواقع، شديدة التنقيح والتنقية بمساعدة المرشحات البصرية التي تمنحنا إياها هواتفنا.
نحن اليوم نشهد واقعاً يستحيل خلاله التمتع بما تمنحنا إياه هذه الحياة في صمت، دون حلول رغبة ملحة بتصويرها وتجميدها في الزمن ومشاركة آلاف آخرين فيها، وكأنّ حواسنا الخمس لم تعد تكفي لاختزال هذه الحياة. على مبدأ "إن لم تسمع الشجرة تقع في الغابة، فهي لم تقع"، صار الحدث في هذه الحياة لا يطرأ إن لم يتم توثيقه عبر الهاتف بطريقة أو بأخرى.
يقول المنظِّر الألماني والتر بينيامين إنّنا صرنا أخيراً مغمورين بعدد لا متناه من "النسخ" أو "الصور"، ما أدى إلى ضياع الهيبة والبريق الملحق بالفنون الأصلية. اليوم في الكويت، وفي ظل حمى التصوير التي غلبت على الكلّ، فقد كلّ شيء في هذه الحياة بريقه الطبيعي، كلّ غروب شمس صار مثل الآخر، كلّ وردة مثل الأخرى، كلّ غيمة ببلادة وفتور سابقتها.
السؤال هنا إذاً عما إن كان قد استنزف داء التصوير جمال الأشياء، مع قدوم العصر الرقمي إلى الكويت، بدأت عديد من الحرف الفنية والتقنية تعيش موتها البطيء... فلطالما ارتبطت حرفة التصوير الفوتوغرافي في السابق بمجموعة من الطقوس التي تطلبت جهداً ليس يسيراً يتضمن انتقاء زاوية بصرية مناسبة، وموازنة التفاوت بين الضوء والظل، ودراسة المساحة والنقطة المركزية للصورة ضمنها، وإمضاء ساعات من دون النور في معامل التحميض. إضافة إلى ساعات من التقاليد العائلية في ترتيب دفاتر الصور والتحلق حولها.
اليوم، حين يجلس بعضنا مع بعض في مطعم أو مقهى، ونتأمل استغرقنا في شاشات هواتفنا الذكية، نأمل أن نستدرك انطفاء شرارة هذه الحياة ►
المصدر: مجلة العربي/ العدد 682 لسنة 2015
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق