• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الكوكب الأزرق

الكوكب الأزرق

الأرض بجوها ومحيطاتها وكرتها الحيوية المعقدة وبقشرتها المؤكسدة نسبياً وغناها بالسيليكا والرسوبيات والبركانيات والصخور التحويلية (سيليكات الماغنيزيوم غلافاً ولباً)...

ويكسوها حديد معدني، وبقبعاتها الجليدية  وصحاريها وغاباتها والتندرا (سهل أجرد في منطقة القطب الشمالي) والأدغال والسهول العشبية وبحيراتها العذبة وفحمُها وترسبات الزيت والبراكين والمنافذ البركانية التي تنبعث منها الأبخرة والمصانع والسيارات والمزارع والحيوانات والحقل المغناطيسي والاينوسفير (الكرة المتأنية) والسلاسل الجبلية في منتصف المحيط والغطاء المقنع، هي نظام فائق التعقيد.

لو قمت بِجولة في النظام الشمسي فإنّك سوف تشاهد منظراً غاية في الإبداع.

دعنا نتخيل أنّنا مثل ذلك المسافر وأنّنا وصلنا دائرة الكسوف العظيمة (دائرة البروج) للكرة السماوية والتي تتحرك فيها كلّ الكواكب الرئيسة لنظامنا الشمسي، فأول كوكب سوف نقابلة هو (بلوتو)، وهذا الكوكب هو مكان بارد جداً ودرجة حرارته نحو (-238) درجة مائويّة، وله جو لطيف يكون في حالته الغازية فقط عندما يكون أقرب إلى الشّمس في مداره الشبه اهليلجي، أما في الأوقات الأخرى فيصبح جوه كتلة من الجليد، إذاً (بلوتو) باختصار هو كرة لا حياة فيها مغلفة بالجليد.

وبالتقدم نحو الشمس فإنك ستواجه الكوكب التالي وهو (نبتون) وهو أيضاً بارد جداً ودرجة حرارته حوالي (-218) درجة مائويّة، وجوّه يحتوي على غاز الهيدروجين والهليوم والميتان وهو سام للحياة وتهب فيه الرياح بسرعة 2000 كيلومتر في الساعة عاصفةً عبر سطح الكوكب.

الكوكب التالي هو (أورانوس) وهو كوكب غازي فيه صخور وجليد على سطحه ودرجة حرارته (-214) درجة مائوية وجوّه يحتوي على الهيدروجين والهليوم والميتان وبالتالي فهو غير ملائم لحياة الجنس البشري.

نصل إلى كوكب (زحل) بعد (أورانوس) وهو ثاني أكبر الكواكب في المجموعة الشمسية ويتميز بخاصية في امتلاكه جملة من الحلقات المحيطة به، وتلك الحلقات مكونة من الغازات والصخور والجليد.

وتعتبر تلك الحلقات واحدة من أجمل الأشياء حول (زحل) وهي مكونة كلياً من غازين (75% هيدروجين و25% هيليوم).

وكثافتها أقل منها للماء، وإذا أردت أن تهبط على (زحل) فالأفضل أن تصمم سفينتك الفضائية بشكل تشبه فيه قارباً منفوخاً واسعاً، ولا تنسى أن درجة الحرارة الوسطية منخفضة جداً وتصل إلى (-178) درجة مئوية.

وبالاقتراب من (المشتري) وهو أضخم كواكب النظام الشمسي، واتساعه يعادل 238 مرة تساع (الأرض)، و(المشتري) هو مثل (زحل) أي هو كوكب غازي، وطالما أنه من الصعب أن نُميّز بين الجو والسطح على مثل تلك الكواكب فمن الصعب أن نقول ما هي درجة حرارة السطح، لكنها في أعالي الجو تصل في الغلاف الجوي حوالي (-143) درجة مائوية، ومن المظاهر الملحوظة في جو (المشتري) شيء ما يدعى النقطة الحمراء العظمى،

وقد لوحظت قبل ثلاثمئة سنة، ويعرّفها الفلكيون الآن بأنّها عبارة عن نظام عاصفة ضخمة هائجة في جو (المشتري) لعدة قرون، وهي من الاتساع بحيث تستطيع ابتلاع كوكبين بحجم (الأرض)، ويُرى (المشتري) كأنّه كوكب مثير لكنه ليس صالحاً للإقامة فيه بسبب درجة الحرارة الباردة جداَّ حَدّ التّجميُد والرياح العنيفة والإشعاع الشّديد.

الآن يأتي دور (المريخ) فجو (المريخ) ليس مكاناً ملائماً للحياة لأنّ معظمه غاز كربون وسطحه في كلّ الأماكن يطفح بالبثور، وتلك البثور هي ثقوب لفوهات بركانية، أو نتيجة لصدمات النيازك والرياح القوية العاتية التي تهب عبر السطح حاملة معها عواصف رملية والتي تدوم ايّاماً وأسابيع متواصلة، وتتغير درجة الحرارة كثيراً وقد تصل إلى مستويات منخفظة في حدود (-53) درجة مائويّة. مرت فترة ساد الاعتقاد فيها بأنّ (المريخ) ربما كان يحتوي على شكل من الحياة.

 لكن كلّ الأدلة بينت أنّه عالم لا حياة فيه.

بالانطلاق بعيداً عن (المريخ) باتجاه الشمس نلاحظ كوكباً أزرق وسنقرر أن نتخطاه لفترة حتى نتمكن من اكتشاف ما هو أكبر.

ويوصلنا بحثنا إلى كوكب يدعى (الزهرة) وهذا الكوكب في أماكنه مغطى ومحجوب بسحب ساطعة بيضاء لكن درجة حرارته عند السطح هي (450) درجة مائويّة، وهي كافية لانصهار الرصاص (إذابته)، وجوُّه مكّون من غاز الكربون في معظمه، والضغط الجوي عند سطحه يعادل (تسعين) ضغط جوي أرضي، وعلى (الأرض) يجب أن تغوص كيلو متراً داخل ماء البحر قبل أن تصل لمثل ذلك الضغط العالي، ويحتوي جو (الزهرة) على طبقات غازية من حامض الكبريت وسُمكها تبلغ عدة كيلومترات. وعندما تمطر (الزهرة)، فكما تعلم فهي لا تمطر مطراً بل تمطر حمضاً. لذلك لا يمكن لأي إنسان أو لأي كائن حيّ آخر أن يعيش في مثل ذلك المكان الجهنمي ولو لثانية واحدة.

نتابع رحلتنا فنصل إلى كوكب (عطارد) وهو عالم صخري صغير مُدمّر بالحرارة والإشعاع من الشمس، ودورانه حدث له إبطاء بسبب قربه من الشمس بحيث يصنع ذلك الكوكب ثلاث دورات كاملة محورية (حول نفسه) في الوقت الذي يأخذه ذاته ليدور مرتين حول الشمس، وبكلمة أخرى فإن سنتين من (عطارد) تساوي ثلاثة من أيامه.

وبسبب تلك الدورة اليومية المطوّلة يكون أحد وجهي (عطارد) حاراً تماماً بينما الطرف الآخر يكون بارداً تماماً والفرق بين درجتي حرارة وجهي النهار والليل لعطارد يزيد على ألف درجة مائوية. وطبعاً مثل تلك البيئة لا تسمح بالحياة فيها.

 وفي مجمل القول، ألقينا النظر على الكواكب الثمانية وليس لواحد منها بما فيها توابعها الثلاث والخمسين، وهي لم تبد شيئاً يساعد كملاذ يؤوي الحياة.

أما الكوكب الأزرق الذي تخطيناه لفترة مضت فهو واحد يختلف كثيراً جداً عن الآخرين فكل ما فيه ينبض حياةً جوُه وتضاريس سطحه ودرجات حرارته الملائمة وحقله المغناطيسي ومصادر عناصره وهو موضوع على البعد المناسب من الشمس، فهو يبدو كما لو كان قد خلق خصيصاً ليصبح موطن الحياة، والذي سنكتشف حقيقته لاحقاً.

 

على خَديعة تنبيه "التّكيّف"

التكيف هو اسم يتشكل من الفعل (يُكيّف) وهذا الفعل يقتضي تعديلاً وفق تغير الظروف، واستعماله من قبل التطوريين يعني تعديل العضوية أو أعضائها لكي تكون أكثر ملاءمة للبقاء تحت شروط بيئتها، وتدّعى نظرية التطور أن كلّ الحياة على (الأرض) اشتُقَّت من عضوية واحدة (جد مشترك واحد)، وهو ذاته أتى إلى الوجود نتيجة صدفة، والنظرية استُخدمت بإسراف لهذا الاتجاه في كلمة "تكيّف" لتدعم هذه الحالة، ويعتقد التطوريون أن تلك العضويات الحية تتغير إلى أنواع جديدة بالتكيف مع بيئتها.

ونظرية التطور بمفهومها في التكيف هي في الحقيقة شكل من أشكال اللاماركية بالضبط (واللاماركية هي مذهب لامارك في التطور العضوي، الذي يؤكد أن التغيرات البيئوية تسبب تغيرات بنيوية في الحيوانات والنباتات وتنتقل بالوراثة إلى الذّريّة). وقد تم رفضها القطعي من قبل الدوائر العلمية.

حتى الآن ورغم أنّه ليس لتلك الفرضية أساس علمي إلّا أن فكرة التكيّف ما زالت تطبع في عقول معظم الناس ولهذا السبب نريد أن نركّز على هذه النقطة هنا، ومن الاعتقاد في تكيفية أشكال الحياة، والتي هي بالضبط خطوة لفكرة أن الحياة ربما تطورت على كواكب أخرى كما فعلت ذلك على (الأرض) مرة. فإمكانية وجود مخلوقات خضراء صغيرة تحيا على (بلوتو) والتي بمقدورها أن تتعرق عندما ترتفع درجة الحرارة إلى (283) درجة مائويّة. والتي تتنفس الهليوم بدل الأوكسجين وتشرب حمض الكبريت بدل الماء، فإنّ ذلك يداعب خيال الناس بطريقة ما، خاصة أولئك الناس الذين انتعشت بكثرة رغباتهم وخيالاتهم بما تنتجه استوديوهات الأفلام في هوليود.

لكن كلّ ذلك هو مجرد هراء كالأحلام (وأفلام هوليود) تصنع كيفما اتفق.

والتطوريون وهم المثقفون جيداً بعلوم الأحياء والكيمياء الحيوية لم يحاولوا حتى الدفاع عن أفكارهم، فهم يعرفون أن الحياة لن تكون موجودة فعلاً إلّا إذا وجدت الشروط الضرورية وتوفّرت العناصر الأساسيّة. فإذا كانوا حقيقة يعتقدون بتلك الأشياء فأنصار الرجال الخضر الصغار وأي شكل من أشكال الحياة المغايرة للطبيعة والذين هم ينحازون بعماء إلى نظريّة التطور هم جاهلون حتى في أساسيات علم الأحياء والكيمياء الحيوية، وهم في جهلهم هذا يسايرون النص المسرحي المنافي للطبيعة والعقل.

لذلك نفهم الخطأ في مفهوم التكيف، فأول شيء يجب أن نلاحظه هو أن الحياة لا يمكن أن تكون موجودة إلّا إذا توفرت بعض العناصر والشروط الأساسية، ونموذج الحياة الوحيد والذي بُني بمعايير علمية هو نموذج الحياة المبنية على الكربون، ويتفق العلماء على أنّه لا يوجد شكل آخر للحياة يمكن إيجاده في أي مكان آخر في هذا الكون.

الكربون هو العنصر السادس في الجدول الدوري، وتعتبر هذه الذرة أساس الحياة على الأرض لأنّ كلّ الجزيئات العضوية (مثل الحموض النووية والحموض الآمينية والبروتينات والشحوم والسكاكر) كلها مكونة من اتحاد الكربون بعناصر أخرى وبطرق مختلفة، ويشكل الكربون ملايين النماذج من البروتينات بالاتحاد بالهيدروجين والأوكسجين والنتروجين... الخ.

ولا يمكن لأي عنصر آخر أن يحل محل الكربون في مركباته، ولا يوجد لأي عنصر آخر غير الكاربون القدرة على تشكيل أنواع مختلفة كثيرة من الروابط الكيميائية تعتمد عليها الحياة.

والنتيجة أنّه إذا كانت الحياة تتطور لتنبثق على أيّ كوكب في أي مكان في الكون فهي ستتخذ من الكربون أساساً لها.

يوجد عدد من الشروط الأساسية بشكل مطلق لكي توجد الحياة التي أساسها الكربون، مثلاً من المركبات العضوية ذات الأساس الكربوني البروتينات فبإمكانها البقاء فقط خلال مجال معين من درجات الحرارة، وتبدأ بالتفكك فوق الدرجة (120) مائوية كما انّها تتحطم بطريقة يتعذر معها إصلاحها إذا تجمدت تحت الدرجة (-20) مائوية.

لكنها ليست فقط درجة الحرارة التي تلعب دوراً حيوياً في تحديد الحدود المسموحة للشروط المناسبة. لكي تبقى الحياة أساسية الكربون قائمة فإنّ ما يصح بشأن درجة الحرارة يصح بشأن نموذج طبيعة الضوء وكميته، وقوة الجاذبية والتركيب الجوي وقوة الحقل المغناطيسي، فـ(الأرض) تقدم بدقة مثل تلك الشروط كما هي مطلوبة لتجعل الحياة ممكنة، وإذا تغير واحد من الشروط كأن تتجاوز درجة الحرارة الوسطية (120) درجة مائوية مثلاً عندئذ لن تكون هناك حياة على (الأرض).

لذلك فالمخلوقات الخضراء الصغيرة والتي تتعرّق عندما ترتفع الحرارة (238) درجة مائوية وهي تتنفّس الهيلوم بدل الأوكسجين وتشرب حمض الكبريت بدل الماء فهي لن تحيا في أي مكان لأنّ الأشكال الحياتية المبنية على الكربون لا تحيا في مثل تلك الشروط، والأشكال الحياتية أساسية الكربون هي النوع الوحيد مصمّمة عن عمد للحياة، وهذا صحيح بشأن الحياة بشكل عام ومن أجل الجنس البشري بشكل خاص. (والأرض) هي بيئة مثالية مصمّمة بتأن وبمقدار.

 

المصدر: كتاب خلق الكون

ارسال التعليق

Top