• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ما هو الإيحاء أو (التلقين الذاتي)؟

أسرة البلاغ

ما هو الإيحاء أو (التلقين الذاتي)؟

(فنّ) الإيحاء هو أن يُدخل المرء إلى ساحة أفكاره الخاصّة (أو أفكار الغير) التمثلات (اتّخاذ الأمثال والتشبُّه) التي تستدعي الأثر المطلوب، أو القواعد الموضحة له، أي إنّ ذلك يُفسِّر العلاقة الوطيدة بين النفس والجسد، حيث باستطاعة النفس أن تبعث أفكاراً معيّنة تُحدِّد بها استجابات الجسد عاطفياً وعملياً.

وخلاصة الآلية التي يعمل بها (الإيحاء الذاتي) هي رسم الأفكار والتصوُّرات والمعتقدات في العقل الباطن لإرسالها إلى العقل الواعي ليقوم بتحقيقها. يقول صاحب كتاب (الإيحاء الذاتي): «أوعز إلى نفسك أنّك واثق بها، مؤمن بإمكانها على مقاومة كلّ عادة، والسيطرة على كلّ نزعة، والتخلُّص من كلّ آفة وعلّة، وبلوغ ما تطمح إليه من جاذبية وهدوء تجد أنّها تلبيك»[1]، ويتحدّث أو يُحدِّثنا عن سبعة أفكار تفعل فعلها أو تأثيرها الإيجابي المنتج في تلقين الذات بما هو إيجابي، وهي باختصار:

1-   فكرة الفكرة:

وهي انبثاق فكرة – عند وجود مشكلة – لحلّها، تأتي مبهمة، مصحوبة بعاطفة غامضة، ثمّ تتضح شيئاً فشيئاً، ويمكن أن نطلق عليها بـ(شرارة الفكرة) أو الإلهام الباطني.

2-   فكرة التأثير:

كما لو يمكننا عند مشاهدة فيلم مؤثر أو قصّة إنسانية مؤلمة، (فهذه عاطفة أوحتها مشاهد الفيلم الحزينة).

3-   فكرة الاستعداد:

كما لو ترك عمل فني أو أدبي حاذق أُعجبنا به في الطفولة أثره في موهبتنا مستقبلاً (بأن يسقط ظلّه على أعمالنا الفنّية أو الأدبية اللاحقة).

4-   فكرة الاستطاعة:

الاعتقاد بالاستطاعة يُسهِّل النجاح، والتفكير المعاكس يشلّ الحركة. يقول (باسكال): «إنّ فكرة السقوط تدعو إلى السقوط»! أو ما يصفه (ريتشارد برانسون) صاحب كتاب (الاقتحام) بالقول: «الإيمان بإمكانية فعلها مهما كانت النتائج»[2].

5-   فكرة العمل والصحيح (التقليد):

إنّنا نتثاءب لرؤية مَن يتثاءب، إنّه الإيحاء بالتقليد.

6-   فكرة التأثير الحسّي:

معظم العادات المتأصِّلة تعود إلى قاعدة الحاجة إلى إعادة مؤثر حسّي، فحين تعاود المُدخن فكرة ما يشعر به عندما يُدخِّن يتبع ذلك دافع داخلي لا تسكن حركته إلّا بالتدخين. (وهو ما اصطلح عليه (بافلوف) في تجربته الشهيرة بـ«الاقتران الشرطي»).

7-   الفكرة ونتائجها:

إنّ للفكرة تأثيراً كبيراً على حركة الجسم وخموله ونشاطه.. يكفي أن تسمع خبراً ساراً حتى يتبدَّد تعبك، والرجل النشيط الذي يتوق إلى العمل يحسّ بالتعب إذا سمع ما يزعجه. وهكذا تصحّ النظرية: الفكرة السلبية (تخلق المرض)، والفكرة الإيجابية (تشفي)[3].

إنّ (الإيحاء الذاتي)، كما تقرر الدراسات النفسية، يساعد على الآتي:

-         إقرار الثقة بالنفس (جمع شتاتها في وحدة موقف).

-         يضبط وسائل العمل (يُوجِّهها باتجاه الهدف).

-         يُسهِّل الحرّية الداخلية (يلغي القيود والموانع).

-         يُمكِّن من اللعب بالأفكار (تحويرها وتطويرها).

-         يُحقِّق السيطرة الكاملة على المَلَكات، أو ما يُسمّى بـ(سلطان الإرادة).

ويقول صاحب كتاب (لا تدع الآخرين يحتلون رأسك): «تتمثّل إحدى الألعاب الذهنية التي يمكنك استخدامها لتجاوز مشكلاتك الراهنة في تخيُّل التواجد على خشبة المسرح مهما كان شعورك»[4].

ويرى صاحب كتاب (الإيحاء الذاتي) أنّ الخوف يتلاشى بممارسة الإيحاء الذاتي، فالمُمثِّل والخطيب يقفان أمام الجمهور مُتسلّحين بـ(التمرين) وفكرة (عدم التأثُّر واللّامبالاة) والشعور بالسرور والفخر لإصغاء الناس إليهما.. إنّهما يُحضِّران عملهما بالمخيلة وهما يُردِّدان ذهنياً: «أنا مطمئن، أنا مطمئن، أنا مطمئن... إلخ»[5].

إنّ حديثنا – في المنهج التربوي الإسلامي – عمّا يُسمّى أو يُطلق عليه بـ(الألطاف الخفيّة) ليس حديثاً عن خداع للنفس وإيهامها أنّ ثمة لطفاً في اللا لطف، أو هناك إيجابية غير منظورة في داخل السلبيّ المنظور، وإنما هو إدراكٌ لما ليس بمُدرَك، والنظر إلى الأُمور من شرفة بعيدة عن الحدث أو مطلّة عليه.. وعندما تقع كوارث تُنذر بالخطر أو الخسارة أو الضرر، ينبري مَن يقول «الخير فيما وقع» لا ليضحك على نفسه ولا على ذقون الآخرين، إنما يستحضر ويستذكر قوله تعالى في سورة الانشراح أو الشرح: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح/ 5 – 6)، أي كلّما اعترضت طريقك صعوبة أو عُسر أو شدّة، فإنّ اليُسر لا يعقبها ويأتي تالياً لها، وإنما هو مُقارِنٌ، مُلازِمٌ، مُصاحِبٌ لها.

وبمعنى آخر، إنّ (الفرج) يسير مع (الكرب) و(الشدّة)، وإنّ تعريفَ (العُسرِ) وتنكيرَ (اليُسر) دلالةٌ على أنّ العُسر لا يغلب يُسرين، ولذلك عُدّت هاتان الآيتان من المُبشِّرات القرآنية.

لو قلتَ لي أنّ في قلب أو بطن أو أحشاء هذا الظلام الدامس الذي يلفّ الأرض كعباءة سوداء غامقة اللون، شمساً ستولدُ غداً صباحاً، لما كذّبتك نظراً لمعايشة طويلة وتجربة يومية علّمتني أنّ إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل يعني عملية تداخل وتلابس وإحاطة، وليس مجرّد تعاقب وتتالي في الإظلام والإشراق.

وأمّا مقابلةُ (اللطف الخفيّ) في لغة أهل الإيمان لـ(النصف الملآن من الكأس) في لغة المتفائلين، فنلاحظ أنّ الأوّل (وهو تربية إسلامية) لا يتحدّث عن (النصف)، بل عن (اللطف الكامل)، يقول الشاعر مستحضراً مرافقة اليُسر للعُسر:

عسى الكربُ الذي أمسيتَ فيهِ             يكون وراءَهُ فرجٌ قريبُ

و(الورائية) هنا ليست (تعاقبية)، بل (تلازمية) بقرينة صفة القريب للفرج. إلى هنا نكون قد مَهَّدنا الطريق لإثبات فرضيتنا من خلال معالجة تسع خسائر كبرى نعيشها في حياتنا وينظر المسلم المؤمن إليها بمنظار غير المنظار الذي يراه بها الخالي من الإيمان أو ضعيفه، لأنّ هذا الأخير المعادلة عنده حسابية (1 – 1 = صفر).. أمّا عند الأوّل، فالمعادلة: خيرٌ ولطف لصاحب المصيبة والنائبة والابتلاء..

[1] - المصدر السابق، ص3.

[2] - الاقتحام دروس في الحياة، ريتشارد برانسون، ص9.

[3] - الإيحاء الذاتي، السلسلة السيكولوجية، ج2، ص14 – 17.

[4] - يضرب (غاري كوكس) في كتابه ذاك مثلاً عمّا تعمله شركة (ديزني) مع الممثلين في ضرورة أن يظهروا مُبتسمين ومُظهرين للسعادة والفرح والودّ لمن يشاهدهم وإن لم تتملكهم تلك المشاعر حقيقة.

[5] - الإيحاء الذاتي، السلسلة السيكولوجية، ص27.

ارسال التعليق

Top