وسترى إذا تأثرت بالصوم أن عاطفة رقيقة يتحرك بها قلبك، وشعوراً دقيقاً تختلج به نفسك، وإحساساً قويّاً يسري في جوانحك هو الذي يسميه الناس الرحمة أو الشفقة أو العطف أو الحنان، وسمِّه ما شئت، فحسبك أنّه شعور يدفعك إلى مواساة المنكوبين، وإعطاء المحرومين، وكفكفة دموع البؤساء والمساكين بما حسن به إليهم من عطاء، وإذن فرمضان شهر العطاء والبذل، ومتى هان عليك هذا العرض الفتان الذي يسميه الناس المال، وعرفت أنك مستخلف فيه؛ لتنفقه في وجوه الخيرات، وليس لك منه إلا ما أكَلْتَ فأفنَيْتَ، أو لَبِسْتَ فأبْلَيْتَ، أو تَصَدَّقْتَ فأبْقَيْتَ، وفهمت قول الله تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ) (الحديد/ 7)؛ فإنك – بلا شكّ – ستقدم إلى الخيرات باذلاً منفقاً، وأنت باسم الثغر، رضي النفس، وذلك ما يؤديك إليه الصوم الشرعي الصحيح.
كان رسول الله (ص) أجوَدَ الناس، وكان أجوَدُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل (ع)، وكان يلقاه في كلّ ليلةٍ من رمضان فيُدارِسُهُ القرآن؛ فلرسول الله (ص) أجوَدُ بالخير من الرِّيح المُرْسَلَةِ.
أرأيت كيف أن علو نفس رسول الله (ص) في درجات الروحانية مع روحانية لقاء جبريل (ع)، مع روحانية تلاوة القرآن، مع روحانية صوم رمضان، كلُّ هذه الروحانيات مجتمعة أثمرت أن يتضاءل سلطان المادة، ويختفي أثر فتنة المال، فيجود به النبيّ (ص) كالريح المرسلة لا يبقى على شيء، وكذلك أثر العبادة الخالصة في نفوس العابدين.
فليذكر المسلم ذلك بمناسبة شهر السخاء والجود، وليذكر معه أن اقتصاده لأمواله لتنفق في سبيل المجد والخير يُضْعف من قوة عدوه الذي يستغنى بما يبتز منه، ويتمتع بثروته، ويرتع في خيرات أرضه، ولو سرت هذه الروح الطيبة، وشعرنا بأن في أموالنا حقّاً للسائل والمحروم، ولواجب الرقي والنهوض المحتوم لرأينا أنفسنا في غنى عن كلّ عمل مسيء للنفس والمجتمع.
عجيب أمر المسلمين اليوم؛ يجود أحدهم في التافه الضار بدم قلبه وعرق جبينه وعصارة روحه، ويبخل بالنزر اليسير، يحقق به أنفع المقاصد، وأنبل الغايات، ويعتذر عن ذلك بالأزمة، وإن أشد منها فتكاً سوء التصرف وخطأ التوزيع.
فهذا شهر رمضان شهر السخاء والإنفاق، وأمامنا مشروعات كثيرة تهيب بنا إلى الإنفاق، فهل نأخذ أنفسنا في هذا الموسم بالتدرب والتمرين على البذل في سبيل الله؟!
(هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمّد/ 38).►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق