◄إنّ صناعة الإنسان الكامل فرداً وأسرة ومجتمعاً هو الهدف الأساس لمنهج السماء وعلى الضد من هذا الهدف الكبير يعمل أعداء الله والإنسان بكلّ ما أوتوا من قوّة لتخريب حياة الإنسان لأنّهم لا يتمكّنون من السيطرة على النّاس وهم يعتصمون بالله وبالقيم السامية فلابدّ إذن من التخريب والإفساد وهدم الحصون ومحاربة القيم العاصمة من الانزلاق.
لقد أنعم الله تعالى على عباده بمنهج يكفل لهم الحياة الحرّة الكريمة ويدفع عنهم عند الالتزام الصادق المخلص به والاستقامة عليه كلّ شرور الخطط الخبيثة التي يقوم بها شياطين الإنس الكبار والصغار (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران/ 101)، (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا) (النساء/ 141).
ومن الخصائص البارزة لهذا المنهج الربّاني الرشيد هو انّ الأخلاق الفاضلة تشكل الإطار العام لكلّ ركائزه العقائدية وقواعده التشريعية وهي الصفة العامة المشتركة التي يتسم بها منهج الله في كلّ جانب من جوانبه المختلفة.
فنحن نجد الأخلاق الفاضلة الإطار والصفة المشتركة في طلب العلم، وذلك عندما يطلب الإسلام التواضع من المعلم والطالب على حد سواء. والقرآن العظيم عندما يقول: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114)، يريد وضع الحجر الأساس للثورة العلمية الدائمة التي لا تتوقف كما انّه يعطي صورة تجسيدية من صور الإقرار بالنقص والاعتراف بالعبودية للخالق الفرد الصمد. ونحن نجد هذا الإطار العام – الأخلاق الفاضلة – في المعارك الجهادية عندما نقرأ (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة/ 190)، فقواعد العدالة والنبل والخلق الرفيع محفوظة في الإسلام منهج الله حتى مع أعداء الله حين تشتبك الأسنة وتستعر الحرب وإذا أُخرجنا من هذا الميدان إلى ميدان آخر، ميدان العلاقة مع أهل الكتاب نجد أنّ منهج الله يطلب منا مراعاة الأخلاق الفاضلة معهم عند الجدال فيقول القرآن في هذا: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125)، فليس الخلاف في الرأي والعقيدة في نظر المنهج الإلهي مدعاة إلى إساءة الخلق واستعمال القسوة معهم ونحن واجدون الأخلاق الفاضلة الإطار العام لمنهج الله الرشيد في مجالات الإنفاق والبرّ والإحسان فالقرآن الكريم يقول: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) (البقرة/ 23)، فالمنفق في سبيل الله والمحسن على عباده لا ينبغي له أن يمن أو يستكثر فإن فعل المنفق ذلك واتبع صدقته أذى فإنّ الذي لا ينفق مالاً مقروناً بالأذى ولكنه يملك الخلق الحسن الرفيع واللسان النظيف أفضل منه.
إنّ هذه الشواهد القليلة للتمثيل لا للحصر من مئات الشواهد تؤكد الطابع الأخلاقي للإسلام وتبرهن انّ الأخلاق الفاضلة، هي الإطار العام والصفة المشتركة لكلّ جوانب المنهج الرباني الرشيد.
وهذه الميزة التي يتميز بها الإسلام تؤكد أهمية الأخلاق الحسنة الفاضلة وفي ذات الوقت تؤكد حاجتنا الماسة الملحة إلى هذا الطابع الندي الكريم في مختلف مجالات حياتنا.
إنّ الحاجة إلى الخلق الحسن الرفيع لا تقل إن لم تزيد عن الحاجة إلى الماء والغذاء، انّ الحياة بدون أخلاق فاضلة جحيم لا يطاق.
وهذه باقة من أحاديث رسول الله (ص) تؤكد تلك الأهمية البالغة وهذه الحاجة الماسة للأخلاق الفاضلة:
قال (ص):
1- "عليكم بحسن الخلق فإنّ حسن الخلق في الجنّة لا محاله وإيّاكم وسوء الخلق فإنّ سوء الخلق في النّار لا محاله".
2- "قال الله: هذا دين ارتضيه لنفسي ولن يصلحه إلّا السخاء وحسن الخلق فاكرموه بهما ما صحبتموه".
3- وخرج (ص) يوماً وقد رأى قوماً يدحون حجراً، فقال: "أشدكم مَن ملك نفسه عند الغضب وأحلمكم مَن عفا بعد المقدرة".
4- "خياركم أحسنكم أخلاقاً الذين يألفون ويؤلفون".
5- "ألا أدلكم على خير أخلاق الدنيا والآخرة؟ تصل مَن قطعك وتعطي مَن حرمك وتعفو عمن ظلمك".
6- "انّ سوء الخلق ليفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل".
7- وعن الحسن عن أبي الحسن عن جد الحسن (عليهم السلام): "انّ أحسن الحسن الخلق الحسن".
هذه المجموعة من الأحاديث مثال الخلق العظيم محمّد بن عبدالله (ص) ويكفينا دليلاً على عظم وخطر الخلق الحسن في منهج الله الحقّ أنّ اللطيف الخبير قد أثنى على رسوله الكريم بهذه الصفة التي اتصف بها حينما قال: (وانّك لعلى خُلُق عظيم) ونحن نعلم بأنّ الرسول الأسوة كان كريماً وكان شجاعاً وكان يتصف بكلّ الصفات الجميلة إلّا انّ الله تبارك وتعالى قد اختار من بين كلّ هذه الصفات جميعاً أجملها صفة الأخلاق لأنّها متداخلة مع كلّ الصفات ولها حضور في كلّ المجالات.
إنّ هذه الأهمية القصوى للأخلاق الحسنة في منهج الإسلام والحاجة الماسة إليها في الحياة هي التي جعلت الأسوة الحسنة يؤكد عليها في خطبته التأريخية الرائعة الشاملة لتكون الأخلاقية الإسلامية الشفيفة هي الطابع الذي يطبع سلوك الإنسان المسلم والصبغة التي تصطبغ بها حياته.
يقول النبيّ الأكرم (ص) في خطبته وهو يستقبل شهر رمضان: "أيّها النّاس مَن حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازاً على الصراط يوم تزل فيه الأقدام"، وتحسين الأخلاق أمر مطلوب في كلّ الشهور إلّا انّه يتأكد في شهر رمضان لأنّه شهر الله شهر القرآن شهر الصيام وتوجد فيه من الظروف والأجواء ما لا توجد في غيره ففيه يدخل الإنسان المؤمن دورة تربوية وهو في ضيافة الله ليصنع من نفسه إنساناً يكون بمستوى الأمانة التي أبت الجبال والسماوات والأرض أن يحملنها واشفقن منها ليكون الإنسان المؤمن قادراً على النهوض بأعباء الخلافة في هذه الأرض.
إنّ العلاقة بين الصوم والأخلاق قوية في منهج الإسلام يقول الأسوة الحسنة (ص): "مَن صام شهر رمضان وحفظ فرجه ولسانه وكف أذاه عن النّاس غفر الله له ذنوبه ما تقدّم منها وما تأخر واعتقه من النار وأحله دار القرار وقبل شفاعته بعدد رمل عالج من مذنبي أهل التوحيد".
وروي أنّ رسول الله (ص) سمع امرأة تسب جارية لها وهي صائمة فدعا رسول الله بطعام وقال لها: كُلي فقالت إني صائمة! فقال: "كيف تكونين صائمة وقد سببتِ جاريتك انّ الصوم ليس من الطعام والشراب"، وهكذا يربط منهج الله الحقّ بين الصيام والأخلاق ربطاً محكماً ولا يرتضي أن يكون الصوم صوماً عن الأكل والشرب فقط ويؤكد هذا حديث آخر ورد عن حفيد رسول الله الإمام الصادق (ع) حيث يقول: "إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب إنّما جعل الله ذلك حجاباً مما سواهما من الفواحش من الفعل والقول...".
إنّ الإسلام العظيم المنهج الربّاني الكريم يريد من الإنسان المسلم أن يخرج بنتيجة وحصيلة إيجابية وهو يقوم بأداء فريضة الصيام يريده أن يكون كما يريد له خالقه أن يكون يريده أن يعمل بإرادته واختياره وجهده الهادف على توفير الشرط الضروري والأساس للتغيير الاجتماعي المنشود ألا وهو تغيير النفوس بتعبيدها لربّها وتحريرها مما سواه وهذا الشرط لا يمكن أن يتحقق بالكف عن الطعام والشراب والجنس فقط.
إنّ الانغلاق على الحاجات المادية الضرورية في شهر رمضان ونحن في ضيافة الله وفي ظل الأجواء والظروف الخاصة ينبغي أن يصاحبه انفتاح على القيم والمثل والتطلعات الروحية. وفي مقدمتها تحسين الخلق، يقول الرحمة المهداة محمّد (ص): "ما من عبد صائم يشتم فيقول: سلام عليك لا أشتمك كما تشتمني إلّا قال الرب تبارك وتعالى: استجار عبدي بالصوم من شر عبدي وقد أجرته من النار".
إنّ موقف الصائم المعتدى عليه هذا يشبه موقف هابيل من أخيه قابيل عندما أراد أن يقتله فقد قال له: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (المائدة/ 28).
إنّ هناك علاقة قوية لا تنفصم بين الصوم كتشريع والأخلاق كسلوك والعقيدة كأساس وقاعدة.
أمّا علاقة الصوم بالأخلاق فقد اتضحت من خلال دعوة الإسلام المكثفة المركزة لتجاوز الصوم الظاهري عن الضرورات من أكل وشرب وجماع إلى الصوم عن كلّ السيئات والانفتاح على كلّ المعاني الجميلة النظيفة، وقد ذكرنا من الأحاديث ما يكفي لإثبات هذه العلاقة.
أمّا علاقة الصوم بالعقيدة فهي أيضاً واضحة من خلال توجيه النداء بالصيام إلى المؤمنين حيث تقول الآية المباركة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ...) (البقرة/ 183)، والسر انّ المؤمنين هم الذين ينفذون التكاليف لاعتقادهم وإيمانهم بالله وإذا ثبتت العلاقة بين الصوم والأخلاق من جهة والعلاقة بين الصوم والعقيدة من جهة ثانية سهل علينا إثبات العلاقة بين الأخلاق والعقيدة بالتعويض كما يقول أهل الهندسة.
فإذا كان (أ) يساوي (ب) و(ب) يساوي (جـ) فإنّ (أ) يساوي (جـ) بالعوض.
إنّ الأخلاق الحسنة الإطار العام لمنهج الإسلام والتي تقوم على أساس التقوى والإيمان ويعمقها ويرسخها الصوم في شهر رمضان عامل يفوق العوامل كافة في إحراز التقدّم والنجاح في كافة مجالات الحياة لأنّه يقوم على أساس ثابت (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم/ 24). والله نسأل.. بصاحب الخلق العظيم وآله الغر الميامين أن يعيننا على تحسين أخلاقنا وقبول أعمالنا واستجابة دعائنا. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق