الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) إذا قرأناه في تراثه كلّه، فإنّنا نجد أنّه ككلّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، لم يترك جانباً من جوانب حركة الإسلام إلّا وأولاه اهتماماً، سواء في عقل الإنسان بما يريد أن يربّي للإنسان عقله، أو في قلبه بما يريد أن يربّي به قلبه، أو في سلوكيات حياته بما يريد أن يعمِّق له الخطّ المستقيم في حركته في الحياة.
هذا الإمام الذي لابدّ للناس من أن يقرأوه في هذا الأُفق الواسع الممتدّ في عالم المعرفة، والذي يربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى، ويربط الإنسان بالإنسان، ويربط الإنسان بمسؤوليته عن الحياة كلّها، فلا يكون مجرّد شخصٍ يعيش في سجن ذاته، ولكنّه يشعر بأنّه لابدّ من أن يعيش في حجم العالم كلّه، لينمِّي طاقاته بالمستوى الذي يستطيع أن يكون فيه عالمياً، لأنّ الله تعالى أرادنا أن نقتدي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رسالته إنسانياً عالمياً.. كان يفكّر في الناس كلّهم، وكان يريد أن يؤسلم العالم كلّه.
ولابدّ لكلّ مُسلِم ومُسلِمة من أن يعيش هذا الأُفق، فلا يحبس نفسه في ذاته ولا في عائلته ولا في وطنه ولا في قوميته، بل يعيش إنسانيته في معنى الإنسان (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات/ 13). فالله سبحانه وتعالى لا يلغي خصوصياتنا (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). وتبقى التقوى هي الأساس الذي يتفاضل الناس فيه.
هذا الإمام الذي عاش رحابة الأُفق في خلقه، فكان يحسن إلى مَن أساء إليه، ويعفو عمّن اعتدى عليه، ويتّسع صدره حتى ليحضن أعداءه، ليعلّمهم كيف يحبّ الإنسان الإنسان، بقطع النظر عن التعقيدات التي يمكن أن تتحرّك هنا وهناك. كان (عليه السلام) يواجه الغيظ من كلّ الذين لا يحترمون إنسانية الإنسان، ومن كلّ المستكبرين في الأرض، والذين يعيشون على أساس الحقد والعداوة والبغضاء، أُولئك الذين لا يعرفون معنى الحبّ، ولذلك فهم يعملون على أساس أن ينفّسوا عن حقدهم ضد الطيِّبين، لكنّ الإمام (عليه السلام) كان يكظم غيظه، فلم يتحرّك بردّ فعل سلبي، بل كان لديه فعل من نوع آخر، فلقد كان القوم يسيئون إليه، وكان يحاول أن يعطيهم درساً في معنى الإحسان، ودرساً في معنى العفو، ولذلك سُمّي «كاظم الغيظ».
كان الإنسان الذي عاش مع الله سبحانه وتعالى بأعلى الدرجات، فقد كان الله حاضراً في عقله، فليس في عقله مكان إلّا لله، وكان الله حاضراً في قلبه، فقلبه كلّه عرشٌ لله، وكان الله حاضراً في حياته كلّها، فكانت حياته للرسالة كلّها، وكان يعيش اللذة باللقاء بالله، ولذلك كان يطيل السجود، وكانت سجدته تمتدّ من الصباح إلى الزوال، ومن الزوال إلى الغروب، ولم تكن سجدة تقليدية، ولكنّها كانت سجدة يرتفع من خلالها بروحه إلى الله عزّوجلّ، فيناجيه ويلبّيه ويدعوه ويعطيه الحبّ كلّه، فكان يقول فيما مضمونه: «اللّهُمّ إنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلت فلك الحمد». وبذلك فإنّه كان العاشق لربّه.. يحبّه.. يناجيه.. يتحدّث معه، ويتواضع معه، وكان يكرّر في سجوده: «اللّهُمّ إنّي اسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب». وليس هناك ذنب يستغفر الله منه، ولكنّه تواضع جمّ لله، بحيث يجلس بين يديه ليعيش كما يعيش العبد أمام سيِّده، لأنّ عبودية الإمام (عليه السلام) كعبودية آبائه وأبنائه، ارتفعت إلى المستوى الذي اندفع فيه مع الله في كلّ معاني الذوبان بالله. ولأنّه أحبّ الله في أعلى درجات الحبّ، وأطاعه في أرحب مواقع الطاعة، وجاهد في الله حقّ جهاده بكلِّ معاني كلمة الجهاد: بالكلمة والموقف والمجابهة، فقد انطلق ليتحدّى لينهض بالرسالة ويزرعها على مستوى الإنسانية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق