◄مِن بدهيّات الفيزياء: لكلّ فعلٍ ردّ فعلٍ.
فإذا علمنا أنّ الزمن يمضي إلى الأمام، كان لابدّ للذين يسيرون في عبق هذا الزمن مِن أملٍ يحفّزهم لمسايرته وإشعال وقود الأمل في أعماقهم.
يقول بعض الكتّاب: وكما أنّ الله – جلّ وعَلا – يأتي بالمحبوب من الوجه الذي قدّر ورود المكروه منه، ويفتح بفرج، عند انقطاع الأمل، واستبهام وجوه الحِيَل، ليحضّ سائر خلقه بما يُريدهم من تمام قدرته، على صرف الرّجاء إليه، وإخلاص آمالهم في التوكُّل عليه، وأن لا يزووا وجوههم في وقتٍ من الأوقات عن توقُّع الروح منه، فلا يعدلوا بآمالهم على أيّ حالٍ من الحالات، عن انتظار فرجٍ يصدرُ عنه، وكذلك أيضاً يسرُّهم فيما ساءهم، بأن كفاهم بمحنةٍ يسيرةٍ، ما هو أعظم منها، وافتداهم بمُلمَّةٍ سهلةٍ، مما كان أنكى فيهم لو لحقهم.
معادلة الصناعة:
أملٌ + إرادةٍ + سَعي + رؤية = نجاحٌ + مستقبل باهر.
حقيقةً مفادها: المرء توّاقٌ إلى ما لم يَنَل.
ما دمتَ قد حصلت على الشيء، فإنّ جذوة الحصول عليه تكون قد انطفأت، ولكي تستمر الحياة وتتجدّد، لابدّ من البحث عن أشياء لم نحصل عليها، وهكذا فالحياة هي رحلة البحث عن الجديد بروح الأمل الذي يتصوّر البعض أنّه مستحيل وهو ممكنٌ إذا ذلّلته الإرادة الصادقة والسعي الجاد، والرؤية الواضحة.
لهذا قيل: إنّ أجمل الأيّام التي لم نعشها بعد.
نعم، لأنّ الأمل يُنشئ في الإنسان حركية دائمة، وتفاعلاً مثمراً، وانطلاقة جادة لحياةٍ أجمل، وعيشةٍ أفضل.
إنّ للمستقبل شروطاً لابدّ من تحقيقها لمن يريد أن يدخل إلى رحابه، وهي:
1- الأمل.
2- والإرادة.
3- والسعي.
4- والرؤية.
المستقبل أمل:
لا يمكنك أن تفكِّر بالمستقبل دون أن تنظر إليه بعين التفاؤل والأمل، فالترابط بين الاثنين وثيقٌ، ذلك أنّ الإنسان بطبيعته يحاول أن يخرج من الإطار الضيِّق لحياته ليتّجه نحو الأفق الواسع الرّحب، حتى ولو كان ذلك بالتحليق على بساط الأماني وأجنحة الخيال.
حتى السجين الذي لا يملك حُرِّيته، والذي ينظر فيجد الأبواب والمنافذ من حوله مغلقة، وإذا حدّق في مصيره رآه مجهولاً، أو مُخيفاً مُرعاباً، لكنّه مع ذلك كلّه، لا يعدم نَفحة الأمل.
يُذكَر: أنّ سجيناً كان يعيش في ظروفٍ خانقةٍ لا توحي له إلّا باليأس لدرجة أنّ زملاءه السجناء كانوا يتمنّون أن يكون الحكم عليهم بالسجن المؤبّد؛ لأنّ الحكم الغالب حينئذٍ هو الإعدام.
خاطبهم بروح ملؤها التفاؤل والأمل والثّقة بالله تعالى، فقال: لماذا تطلبون من الله ذلك؟
لماذا لا تطلبون الفرج؟!
أنا حتى لو وضعوا الحبل في عنقي فإنّني أعتقد بقدرة الله على تغيير الوضع في أيّة لحظةٍ!!
الأمل والمستقبل توأمان متلازمان، كحصانين في عربة واحدة، فلا مستقبل بلا أملٍ يحدوه ويقود إليه، ويخفّف وطأة المعاناة في بلوغه.
لكننا في العادة نقلق على المستقبل، من خلال الحياة الدراسية والعمل وطريقة التفكير بمشاريع الحياة.
وهذا قلقٌ إيجابيّ؛ لأنّه المحرض الذي يُحرِّك الهمم لخوض معاناة الوصول إلى المستقبل، إنّه القلق الفعّال، القلق المُبدع الذي يُحفِّز.
إذاً هو قلق الأمل، وقلق النظر بعين الرجاء إلى المستقبل الأكمل والأجمل.
ذلك أنّ فُقدان الأمل يعني فُقدان الحياة لكلّ ما يُربطها ويلوّنها وينعشها ويخفِّف من وطأة المعاناة فيها.
إنّ الأمل لا يعني أمنيةً فارغةً أو حلم يقظةٍ أو شُروداً في الخيال والأوهام، هو ثقة أنّ ما نحلُم به يمكن أن يرى النور، سواء من خلال وعدِ اللهِ الصادق فيه، أو من خلال سعينا الجادّ لتحقيقه، أو مِن اجتماع الاثنين معاً.
إنّ الأماني التي تحقّقت، والآمال التي أُدركت، هي تلك التي لم تبق في دائرة التمنِّي أو الخيال، بل حرّكت العزم الحاضر لاقتناص المستقبل الواعد.
يقول الشاعر:
لا تسعَ للأمرِ حتى تستعدّ له *** سعيٌ بلا عُدّةٍ قوسٌ بلا وَترِ
لم ينجُ نوحٌ ولم يَغرق مُكذِبهُ *** حتى بنى الفُلكَ بالألواح والدُّسُرِ
الأمل إرادة:
قال بعض الحكماء: الإنسان لا ينفكُّ من الأمل، فإن فاته الأمل قوي على المُنَى.
وقال: والأمل يقع بسببٍ، وبابُ المُنى مفتوحٌ لمن أراد الدخول فيه.
للأمل في السّير نحو المستقبل دورهُ الكبير، فهو أحدُ أهمّ الدوافع التي تجعلنا نغذّ السير باتّجاه غدٍ أفضل لكنّ الإرادة تجعل الآمال ممكنة التحقّق، والأحكام قابلةً لأن تُصبح حقائق ووقائع.
إنّ زخم الإرادة وقدرتها على تحريك طاقات الإنسان يتوقّف على حجم الهدف الذي يسعى الإنسان للوصول إليه؛ فكلّما كان الهدف كبيراً، كان زخم الإرادة أو قوّتها الدافعة كبيراً.
الإرادة مقوّمٌ أساسٌ من مقوّمات الوصول إلى أهدافنا مهما كانت كبيرةً عظيمةً، ولذا قيل: لو تعلّقَتْ هِمّةُ أحدِكُم بالثُّرَيّا لنالها، والثريا نجمٌ في أعالي السماء، وهو كناية عن أبعد هدفٍ يمكن للإنسان أن يتصوّره، وذلك ما رسمه الشاعر بريشته الجميلة قائلاً:
مَن رامَ وصل الشّمس حاكَ خيوطَها *** سبباً إلى آماله وتعلّقا
فلا مستحيل مع الإرادة الواعية المدركة المصمّمة، فكم استطاعت مثل هذه الإرادة كسر القيود واختراق الحواجز لتصنع المعجزات وتحدث انقلابات ونقلات جذرية كبرى في حياة أُناسٍ عرفوا قيمة ما أودعه الله فيهم مِن قوى جبّارة، فأغنوا حياتهم وحياة البشرية بما قدّموه من إنجازاتٍ تُذكر فتُشكر.
الإرادة وحدَها ليست كافيةً، فكُلّنا نريد الخير ونحبّه ونتمنّى أن نعمله، وبدونها تبقى الإرادة مثل الطاقة الموجودة في محطّات بنزين هي طاقة لكنّها غير موظّفة وغير مُسَخّرة بعد أن تُعبِّئ بها خزّان البنزين وتُشغِّل ماكينة السيارة وتضغط على دوّاسة البنزين، عندما تحوّل الطاقة إلى حركة، وهذا هو معنى التعبير عن الإرادة.
فأنا أريد النّجاح لكن تعبيري عن هذه الإرادة هو جِدّي واجتهادي وبذل أقصى ما يمكنني للوصول إلى النّجاح، وبدون هذا التعبير تبقى الإرادة وقوداً في محطّات البنزين.
قيل قديماً: مَن تذكّر بُعدَ السفر استَعَدّ!
يُحكى: أنّ نابليون إمبراطور فرنسا كان يكره من الكلمات ثلاثاً: لا أقدر، ولا أعرف، ومستحيل.
فكان جوابه للأولى: حاول، وللثانية: تعلّم، وللثالثة: جرِّب!
وقد قيل له وهو يكتسح الممالك بجيشه الجرّار: إنّ جبال الألب الشاهقة تعيقك عن السّير وتحول دون أمانيك، فأجاب على الفور: يجب أن تُمحى من الأرض!
وقد صدق الشاعر الذي قال:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكِلُهُ *** لن تبلغ المجدَ حتى تلعق الصّبرا
ويقول أحمد شوقي:
وما نيلُ المطالب بالتمنّي *** ولكن تُؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم مَنالٌ *** إذا الإقدام كان لهم ركابا
وقال آخر:
لأستسهلنّ الصعب أو أُدرك المُنى *** فما انقادت الآمال إلّا لصابر
الأمل سعيٌ:
الكثيرون ممّن يمكن أن نطلق عليهم الناجحين في الحياة يؤكّدون حقيقةً مهمّةً، وهي: أنّ ما حقّقوه من عطاءاتٍ ومشاريع كانت تدور في أذهانهم كأحلام، لكنّهم لم يعيشوا تلك الأحلام على طريقة بعض الكُسالى الذين يُمنّون أنفسهم بعسى ولعلّ، بل نقلوا تلك الأحلام من خيالاتٍ تطوف في الذهن إلى مخطّطاتٍ على الورق، ومن ثمّ إلى مشاريع عملية يعيشونها في الحاضر؛ أي: إنّهم خطّطوا للوصول إلى جزر أحلامهم ليحيلوها بسعيهم وجهدهم المثابر إلى حقائق واقعة وناطقة.
فبالإرادة القوية والصّبر العنيد والثّقة المتفائلة بالله وتأييده والاستعداد لمواجهة العقبات والتحدِّيات وتقبّل النتائج مهما كانت، صَنَعوا سُفُن الوصول إلى تلك الجُزر النائية، بل إلى القارّات البعيدة غير المكتَشفة.
لقد تحدّى كريستوف كولومبس مكتشف القارة الأميركية حُسّاده أن يوقفوا بيضةً على طرفها، فحاولوا كثيراً فعجزوا، فلمّا ضغطها على طرفها قامت مستوية، فصاح منافسوه: كنّا جميعاً نستطيع ذلك! قال: ولكنّكم لم تفعلوا وهل كان اكتشاف أميركا إلّا كذلك؟!
الهدف الذي يبدو بعيداً في أعلى القمّة أو أقصى الأفق يحتاج إلى قلبٍ شُجاعٍ، والحكمة تقول: أمام القلب الشجاع لا شيء مستحيل.
فما إن تضع قدمك كخطوةٍ أولى في الطريق حتى تنطوي مسافاته الشاسعة تباعاً، فمسافة الألف ميل تبدأُ بخطوة.
ونقول تباعاً بشرط السعي والجدّ والاجتهاد، وإلّا فهي لا تُطوَى تلقائياً كما في بعض الأفلام الخيالية التي لا تَمِتّ إلى الواقع بصلةٍ.
إنّ المشاريع الكبيرة، هي أحلامٌ كبيرةٌ لنفوسٍ لم تقف عند عتبة التخيّل والتمنّي، فالتمنّي المجرد الذي هو رأسمال المفلس لا يُسقط رُطبة جنيّة من نخلةٍ مليئةٍ بالرّطب، ولا يقرّب النهر من الفم الظمآن، ولا يقلع شوكةً من الطريق، ولا يبني سوى قصورٍ من رملٍ قد ترتفع في الهواء، لكنّ أوّل اجتياحٍ مائيّ لها سرعان ما يسوّيها مع الأرض ويحيلها إلى جزءٍ من الساحل الرملي فتبدو وكأنّها لم تكن، تماماً كما هي الفقاعات سريعة الانتفاخ، سريعة الانفجار.
ولا شكّ أنّك قرأتَ: أنّ المبدعين والعباقرة لم يكتفوا بأن ينقدوا السائد من الأفكار والآراء والأساليب والأطروحات المتداولة، بل عملوا على تغيير الموجود وفق الرؤية التي كانوا يحملونها لما هو أصلح وأسلم وأنفع، ولو اكتفوا بالنقد السلبي، أو انتظروا مِن غيرهم أن يحقِّق لهم الصورة الأفضل لبقي العديد من تلك الأفكار والوسائل والأعمال على حاله لم يتغيّر.
الحُلُمُ مطلوبٌ: لأنّه يشكِّل وازعاً محرّكاً نحو الهدف، فهو كالنيّة التي تحرِّك الجوارح للعمل، ولكي تكون بذرة الحلم زهرةً يانعةً أو حديقةً ملأى بالزهور، لابدّ من أن تخرج من ظلام التُّربة إلى النور والهواء الطّلق.
وعلى هذا نشأت معادلة الصناعة الحقيقية.►
المصدر: كتاب صناعة الأمل
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق