• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

السيرة النبويّة.. قيم إنسانيّة سامية

أسرة البلاغ

السيرة النبويّة.. قيم إنسانيّة سامية
◄(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (الأحزاب/ 45-46).

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب/ 21).

في ظلمات الجهل والجاهلية بزغت أنوار الإسلام يحملها إلى البشرية الهادي محمد (ص).

.. ففي مكة المكرّمة هبط الوحي على هذا الرسول الأُمِّيّ وتواصل نزوله في مكة.. وبعد الهجرة في المدينة المنوّرة مدّة ثلاثة وعشرين عاماً.. وطيلة حمل الرسالة وما قبلها كانت للرسول (ص) سنّة وسيرة عملية تجسّدت في سلوكه الذاتي، وفي حمل الدعوة وإقامة الرسالة، والتعامل مع المجتمع.. وفي علاقته مع نفسه وأسرته وأرحامه وأصحابه وأعدائه وحلفائه.. فكانت تلك السيرة نبراساً يضيء الدرب للمؤمنين، ودليلاً يهدي في ظلمات المسير، كما كانت مصدراً للأحكام ومناراً لأولي الألباب والأفهام.

إنّ الرسول (ص) يمثل الإنسان الكامل في كلِّ حياته من قول وفعل ومنهج وسلوك، لذا أمرنا الله سبحانه بالإقتداء به، والسير على نهجه.. قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر/ 7).

إنّ دراسة السيرة النبوية دراسة تحليلية استنتاجية، وعلى أسس علمية موثقة هي من أولى مهام العلماء والمفكرين والباحثين عن قيم الإنسان السامية.. إنّ دراسة السيرة العملية للرسول (ص) تضع أمامنا حقائق علمية وعملية هامّة في عالم المبادئ الرفيعة، والقيم السامية.. ذلك لأنّ سيرته تجسيد للمبادئ والرسالة الإسلامية، فمن خلال قراءة سيرته (ص) العملية تقرأ الإسلام العملي، لنتبيّن ونبيِّن أنّ الإسلام ليس أفكاراً نظرية مجردة، ولا تصورات مثالية فوق مستوى التطبيق..

إنّ أجيال المسلمين، بل وأجيال البشرية بحاجة إلى دراسة شخصية الرسول (ص) لتفهم الإنسانية الحقة مجسّدة في تلك السيرة، بعيداً عن تصورات الغلاة والمحرفين والمتقولين على الإسلام.

إنّ الحاجة ملحة إلى وجود مشاريع أبحاث لدراسة السيرة النبوية دراسة عميقة وشاملة، وتعميم هذه الثقافة وتبنيها أساساً في بناء الشخصية، ومقياساً للواقعية الإسلامية..

 

السنّة النبوية:

السنّة في اللغة: السنّة في الأصل، سنّة الطريق، وهو طريق سنّه أوائل الناس، فصار مسلكاً لمن بعدهم، وهي الطريقة، والطبيعة، والوجهة والقصد، وسَنَن الطريق: نهجه[1].

والسيرة في اللغة: السنّة والطريقة.

السنّة في المصطلح: وعرفت السنّة في المصطلح بأنّها: "والسنّة في اللغة هي الطريقة والسيرة، والجمع سنن، وفي الصناعة[2] هي طريقة وإذاً فالسنّة النبويّة: هي كلّ ما صدر عن النبي (ص) من قول أو أو تقرير.

وإذاً فالسيرة النبويّة فعل النبي (ص) الذي صدر عنه، ومارسه سلوكاً عملياً في حياته المباركة، أو هي طريقته، سواء في سلوكه الشخصي المتعلق بالطعام والشراب واللباس.. إلخ، أو علاقاته الاجتماعية مع المجتمع ومعاشرته للآخرين، أو عبادته، أو علاقته بأسرته، أو سلوكه السياسي، أو سياسته وقيادته العسكرية، كالغزوات والتخطيط للحرب، والتعامل مع الأعداء، وكطريقته العملية في الدعوة إلى الله سبحانه وإدارة السلطة، وكيفية تعامله مع خصوم الدعوة عبر مراحل دعوته.. فالسنّة في المصطلح هي أعم من السيرة.

ويهمّنا أن ندرس السيرة دراسة علمية واعية تقوم على أساس الإثبات العلمي والتحليل، واستنتاج الأحكام والمفاهيم، وقيم الحياة الحضارية والسلوكية الهادية للإنسان في متاهات الظلام.. ندرسها لنعمل بها ولنقتدي بالنبي المنقذ محمد (ص).

والسنّة النبويّة بإجماع المسلمين هي المصدر الثاني للأحكام والمفاهيم والمعرفة الإسلامية بعد القرآن الكريم.

فقد أمر الله سبحانه المسلمين باتّباع النبيّ والأخذ عنه.. جاء ذلك في قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).

وقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21).

فهو في فعله كما هو (ص) في قوله وتقريره مبين للأحكام ومفسر للقرآن، بل وفي الفعل والتقرير هو (ص) مطبق للقرآن ومبين في آن واحد.

وقد درس علماء أصول الفقه فعل الرسول (ص) دراسة أصولية، أي على مستوى دراسة الدليل، وفهم الدلالة للاستدلال بها، واستنباط الأحكام منها.

ومن المفيد أن نعرِّف بالسنّة العملية (سيرة الرسول (ص)) تعريفاً موجزاً.. إنّ الفعل النبوي بطبيعته دليل شرعي صامت، يحتاج إلى بيان يوضح دلالته. والذي لا يحتاج إلى إثبات هو أنّ الرسول (ص) بعصمته، وبما أنّه حامل الرسالة، والمبلغ عن الله، والمنفِّذ للأحكام لا يمكن أن يصدر عنه فعل محرم.. فكل ما ثبت صدوره عن الرسول (ص) يفيد عدم الحرمة.. وهو بطبيعته يقسم إلى: تعبدي وغير تعبدي.. فإن كان الفعل تعبدياً أو تقربياً فهو إمّا أن يكون واجباً أو مستحباً، ذلك لأنّ العبادة وأفعال التقرب إلى الله سبحانه لا تكون إلّا واجبة أو مستحبة، كالصلاة والصوم والصدقة وقراءة القرآن.. أمّا إذا كان الفعل غير تعبدي ولا تقربي فيمكن أن يكون واجباً، كالنفقة على الزوجة، أو مستحباً كالأناقة والعناية بالجمال، أو مباحاً كأكل لحم الغنم ولبس ثياب القطن.. إلخ.

وتحديد كلّ مفردة من تلك المفردات يحتاج إلى دليل إضافي وقرينة مبيّنة، أمّا ما تركه النبي ولم يفعله فيدل على عدم الوجوب، ذلك لأنّ النبي (ص) لا يمكن أن يترك واجباً.. لذلك فالترك من النبي (ص) يدل على الحرمة أو الكراهة أو الإباحة، وتشخيص العنوان يحتاج إلى دليل إضافي أيضاً.

ومن المفيد أن نوضح أنّ للنبي (ص) صفات اعتبارية عديدة هي:

1-   صفته النبوية، كنبي ومبلغ عن الله تعالى في قوله وفعله وتقريره. فكلّ ما يصدر عنه (ص) إنما هو بيان للأحكام، ومثالها أداؤه (ص) مناسك الحج والصوم والصلاة.. إلخ لذا قال (ص): "خذوا عنِّي مناسككم" وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي".

2-   صفته باعتباره حاكماً وولي أمر.. وما يصدر عنه من مواقف وأوامر ونواهي يحتاج إلى دراسة وتحليل لفرز ما هو بيان للأحكام، وما هو تطبيق مصداقي للأحكام، وما هو صلاحيات للحاكم باعتباره حاكماً.. وما هو أسلوب وآلية لإدارة الحكم والسلطة، أي أنّنا نجد في هذا المجال أربعة عناصر متداخلة هي:

أ‌-       صلاحيات الحاكم، كحاكم.

ب‌- تشخيص النبي (ص) لمصاديق الأحكام وموضوعاتها من خلال التطبيق.

ت‌- بيان الأحكام.

ث‌- الوسائل والأساليب الإدارية للسلطة.

ولدراسة هذه الصفة أهمية كبرى في تحديد صلاحيات السلطة الشرعية في كلِّ زمان ومكان بتفريعاتها المشار إليها وفرز ما هو حكم شرعي مما هو صلاحية، أو تشخيص لمصداق حكم، أو أسلوب إداري استخدمه الرسول (ص) لإدارة السلطة بما يناسب الظروف والأوضاع بالإضافة إلى كونه (ص) رسولاً مبلغاً عن الله تعالى، فهو الإمام وولي الأمر، حدد القرآن الكريم ولايته ووجوب طاعته كولي أمر، بقوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب/ 6).

وقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب/ 36).

وقال تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) (النساء/ 59).

وقال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء/ 65).

فالطاعة والولاية والقضاء في هذه الآيات هي غير التبليغ والنبوة..

والنبي (ص) بهذه الصفات صدرت منه (ص) أفعال وبيانات لفظية.. وتلك الأفعال والبيانات بحاجة إلى دراسة علمية وفرز شرعي دقيق لما هو بيان للأحكام، مما هو صلاحيات حاكم.. ففعل الرسول (ص) الذي مارسه، باعتباره حاكماً وولي أمر يتحوّل إلى صلاحية يمارسها مَن يتولى موقع الإمامة والقيادة وولاية الأمر بالشكل الذي أداه الرسول (ص) أو بشكل آخر يحقق المطلوب لسياسة العدل، وحفظ المصالح.

وتلك الأفعال – كما أوضحنا – تقسم إلى قسمين:

قسم منها أحكام الزامية. وقسم آخر منها تطبيق وآليات وأساليب لتنفيذ الأحكام.. ومن خلال ذلك نعرف موضوعات ومصاديق تلك الأحكام.. ثمّ نقوم بدراستها فنسأل قبل الدراسة هل هذه المصاديق التطبيقية هي الموضوعات الخاصة في تلك الفترة لتلك الأحكام، وطبّق الرسول (ص) الأحاكم عليها باعتباره حاكماً، وأنّ الأحكام تسري على كلِّ ما ماثلها ويشاركها في الملاك..

إنّ دراسة أفعال الرسول وفق هذاالتفصيل يفتح أمام التفكير والتشريع الإسلامي آفاقاً واسعة من النمو والتطور والاستيعاب لمستجدات الحياة، وإنّ الخلط بين بيان الأحكام وآليات العصر التنفيذية التي اعتمدها الرسول (ص) وتطبيقه الأحكام في غير التعبديات على موضوعاتها.. إنّ الخلط بين هذه القضايا (الآليات والتطبيق على المصاديق) وبين قضية بيانه (ص) للأحكام هو خطأ في فهم الفعل النبوي، ينتج عنه خطأ في استنباط الأحكام، وفي التعامل مع الظروف الموضوعية، وتطور الحياة المدنية..

فالرسول (ص) مثلاً حين نفّذ مبدأ الشورى أو أقام السلطة وأدارها، أو نفّذ مبدأ مكافحة الفقر والحاجة، وحفظ الأمن، وتنفيذ أحكام القضاء بوسائل وطرق وآليات مناسبة للظروف القائمة آنذاك، لم يكن مبيناً لأحكام ثابتة، بل هي وسائل مناسبة لتلك الفترة، وينبغي البحث عن الوسائل العصرية المناسبة لتنفيذ تلك المبادئ في عصرنا الحاضر..

ففي الفعل النبوي نجد الآليات والمبادئ.. والشريعة هي مجموعة قوانين وأحكام (مبادئ) ملزمة حسب عناوينها.. أما الآليات والوسائل فيمكن التصرف فيها، واستبدالها بما هو أنسب منها للظروف القائمة لتنفيذ المبادئ، فالمطلوب الشرعي هو تنفيذ المبادئ لذلك فإنّ الاستفادة من مفهوم تنقيح مناط الأحكام، وتحديد ملاكاتها مسألة ضرورية في هذا المجال.

وفيما يلي نورد أمثلة توضح لنا تداخل الأحكام بالمصاديق والآليات: فمثلاً منع رسول الله (ص) من الاحتكار، وهذا المنع هو تشريع وبيان للأحكام، وشمول المنع في تلك الفترة كان لعدد محدد من السلع والبضائع المتداولة في السوق، والتي يسبب احتكارها ضرراً وضيقاً للناس.. وهي القمح، والتمر والشعير، والزبيب والزيت، والسمن والملح، وحين نقف أمام موضوع الاحتكار والسيرة العملية للرسول (ص) بنهيه عن احتكار تلك المواد.. لابدّ لنا من أن نورد السؤال الآتي: هل نعتبر منع الاحتكار لتلك المواد هو حصر تشريعي لا يتعداه النهي، أو نعتبر أنّ الرسول (ص) طبق تشريعاً يقضي بحرمة الاحتكار، غير أنّ السلع التي يسبب احتكارها في تلك الفترة ضرراً وضيقاً للناس هي تلك المصاديق فقط، ولو كان غيرها موجوداً لمنع من احتكاره أيضاً، فهو (ص) في ذلك التحريم المحدود كان مطبقاً للحكم على مصاديقه المتيسرة آنذاك، وليس مبيناً لتشريع محدد في مصاديقه، أي أنها مصاديق وليست متعلق الحكم بأكمله.. وإذا فهم الثاني من الفعل النبوي فإنّ حرمة الاحتكار تسري لكلِّ سلعة يسبب احتكارها ضرراً وضيقاً للناس.. كاحتكار الأدوية في عصرنا والغاز والنفط والطاقة الكهربائية وحليب الأطفال.. إلخ.

ومن المفيد أن نقرأ نصاً فقهياً يتحدّث عن هذا الموضوع في اللمعة الدمشقية ونصه: "والأقوى تحريمه مع حاجة الناس إليه، لصحة الخبر بالنهي عنه عن النبي (ص) وأنّه لا يحتكر الطعام إلّا خاطئ، وأنّه ملعون"[3].

"وإنّما تثبت الحكرة فس سبعة أشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت والملح، وإنّما يكره إذا وجد باذل غيره يكتفي به الناس، ولو لم يوجد غيره وجب البيع مع الحاجة، ولا يتقيد بثلاثة أيام في الغلاء، وأربعين في الرخص، وما روي[4] من التحديد بذلك محمول على حصول الحاجة في ذلك الوقت، لأنّه مظنّها، ويُسعَّر عليه حيث يجب عليه البيع إن أجحف في الثمن لما فيه من الأضرار المنهيّ، وإلّا فلا"[5].

وهكذا نقرأ في هذا النص الفقهي:

1-   تحديد المواد الغذائية التي يحرم احتكارها.

2-   يُلزم المحتكر بالبيع مع حاجة الناس إلى تلك المواد لحرمة الإضرار بالآخرين وفق قول الرسول (ص): "لا ضرر ولا ضرار".

3-   إنّ الرواية التي تحدثت عن مدّة الاحتكار المنهي عنها ثلاثة أيام في الغلاء وأربعين يوماً في الرخص محمولة على حصول الحاجة في ذلك الوقت، ولا يجب التقيد بها.

وهكذا تتضح أمامنا عدّة أحكام وصلاحيات تتعلق بالحاكم الشرعي. فالرسول (ص) عندما ألزم حزام[6] بن حكيم ببيع الطعام المحتكر، ألزمه باعتباره حاكماً، وتلك صلاحية لكلِّ حاكم بعد الرسول (ص)، وفي الوقت ذاته كان هذا الحكم النبوي بياناً لحكم وتشريع..

من النص الفقهي الآنف الذكر نفهم انّ الحاجة إلى تلك المواد والإضرار هما ملاك المنع والتحريم والالزام بالبيع والتسعير إن كان السعر مجحفاً.. ويستفيد الفقهاء من ذلك أنّ هذه الحاجة والإضرار عندما يحصلان في أيِّ مادة أخرى يحرم احتكارها لحرمة الضرر.. وبما أنّ للحاجة دخلاً في جعل الأحكام، والحاجة تتغير حسب الظروف، لذا فالحكم المرتبط بالحاجة يتغير أيضاً، وذلك صريح النص الفقهي: "ولا يتقيد بثلاثة أيام في الغلاء وأربعين في الرخص، وما روي من التحديد محمول على حصول الحاجة في ذلك الوقت".

والرواية المشار إليها في هذا النص هي: "عن أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (ع): الحكرة في الخصب أربعون يوماً، وفي الشدة والبلاء ثلاثة أيام، فما زاد على الأربعين يوماً في الخصب فصاحبه ملعون، وما زاد على ثلاثة أيام في العسرة فصاحبه ملعون"[7].

وعلق الفقيه المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي على هذه الرواية بقوله: "أقول: وهذا التحديد محمول على عدم حصول الضرورة في أقل من المدة المذكورة"[8].

ومن ذلك يتضح أيضاً أنّ الذي يحدد مثل هذه المدة، ويلزم بالبيع والتسعير هو الحاكم الشرعي، وأنّ هذا التحديد تحدده الضرورة المقدرة من قبل الحاكم الشرعي، وليست هي حكماً شرعياً ثابتاً.

3-   صفته باعتباره قاضياً.. وهو (ص) حين يمارس القضاء له صفة أخرى غير صفة النبوة وولاية الأمر، إننا نجد في هذا المجال بياناً للأحكام وأسلوباً للقضاء والتنفيذ، فالرسول (ص) حين اعتمد البينات أو الإقرار والأيمان كطرق للإثبات، إنّما يحدد لنا وسائل إثبات الدعوى، وهي أحكام ملزمة، ويبقى لنا في العصر الحاضر أن نعرض للدراسة إذا كان دور البيّنة والإقرار هو كشف الواقع، ونتيجتها ظنية فللباحث في هذا الموضوع أن يبحث هل للوسائل العلمية الحديثة التي تستطيع أن تؤدي دور الإثبات، لا سيما في القضايا الجنائية، نفس القوة القانونية التي هي للإقرار والبيّنة أو لا..؟

ولم يثبت أنّ الرسول (ص) قد قضى بعلمه الشخصي، بل قال لأصحابه: "إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار"[9].

والرسول (ص) حين واجه في مجتمع المدينة مشكلة توزيع الماء على المزارع والبساتين، وتقسيمه بين الفلاحين، قضى بينهم بتوزيعه وفق كميات محددة.. وبالرجوع إلى النص الفقهي والروايات وتحليل محتواها علينا أن نسأل: هل تلك الكمية التي حددها الرسول (ص) من المياه في حينها هي حكم شرعي لازم في كلِّ ظرف، وفي كلِّ زمان ومكان..؟

أم أنّه (ص) نظَّم توزيع المياه باعتباره حاكماً، وأنّ حجم تلك الكمية التي حددها (ص) قابل للزيادة والنقصان، حسب أساليب الري وظروف المياه، أيّ أنّ الرسول (ص) لم يكن مبيّناً لحكم شرعي لازم في كلِّ ظرف، بل كان سلطة شرعية تقوم بعملية تنظيم شؤون المجتمع وفق ظروف معينة..

والنص كما ورد هو الآتي: قال الشيخ – رحمه الله –[10] في النهاية: "قضى رسول الله (ص) في سبيل وادي مهزور أن يحبس الأعلى على الذي هو أسفل منه، للنخل إلى الكعب، وللزرع إلى الشراك. وقال في المبسوط: روى أصحابنا إنّ الأعلى يحبس إلى الساق، للنخل، والشجر إلى القدم، وللزرع إلى الشراك. والذي رواه في التهذيب عن غياث بن إبراهيم، عن الصادق (ع) قال: سمعته يقول: قضى رسول الله (ص) في سيل وادي مهزور للزرع إلى الشراك، للنخل إلى الكعب، ثمّ يرسل الماء إلى أسفل من ذلك".

والذي يمكن فهمه أن تحديد تلك الكمية كان لظروف معيّنة، وليس لكلِّ ظرف وزمان ومكان.

4-   صفة الرسول (ص) باعتباره داعية للرسالة والمبادئ.. وهو من خلال دراستنا للدعوة ولسيرة الرسول (ص) خلال ثلاثة وعشرين عاماً ولشخصيته في القرآن الكريم كداعية للإسلام نجد ثروة غنية في فقه الدعوة ووسائلها وأساليبها وأخلاقيتها.. نجد المرحلية والتدرج في التبليغ، ونجد الوسائل العملية والحوار العلمي، نجد المرونة والدبلوماسية، نجد الدعوة الفكرية، كما نجد استخدام القوة لحمل الدعوة والدفاع عنها بالقوة، ونجد الوصايا والتعاليم للرسول (ص) في كيفية مخاطبة الناس، وأسلوب التعامل معهم.. ومن خلال تحليل السيرة العملية للرسول (ص) تلك نجد ثلاث مسائل أساسية، هي:

1-   أحكام شرعية.

2-   وسائل وأساليب.

3-   قيم أخلاقية وسلوكية تعامل بها الرسول (ص) كداعية إلى الإسلام.

نجد في هذا التقسيم مسائل أساسية تنبغي دراستها لكلِّ رسالي يحمل الدعوة إلى الإسلام بوعي وشمولية، ليعرف مسؤوليته كرسالي، ويتعرف على سيرة الرسول (ص) كقدوة للرساليين.. ومن خلال الدراسة يتضح لدينا أنّ جانب الالزام هو في الأحكام والقيم الأخلاقية.. أما الوسائل والأساليب فليس واجباً العمل بها كما استخدمها الرسول (ص) إلّا إذا دعت الظروف الموضوعية إليها..

فمثلاً اعتمد الرسول (ص) أسلوب السرية والمرحلية والهجرة، واستخدم أسلوب الدعوة الفكرية أوّلاً، ثمّ استخدم القوة.. وبدأ من دعوة الأفراد إلى دعوة العشيرة، ثمّ إقامة الدولة، ثمّ عقد الأحلاف والمعاهدات، وخاطب الملوك والقادة.. إلخ.

تلك الوسائل والأساليب بشكلها الترتيبي مرتبطة بظروف معينة، فإن واجه الرساليون الظروف نفسها، كوجود الإرهاب والطاغوت الفكري والسياسي، مثلاً، فعندئذ يجدون أنفسهم بحاجة إلى السرية والعمل السري، وإلّا فلا حاجة إلى ذلك.. وعندما يجدون أنفسهم قادرين على إحداث التغيير من دون حاجة إلى اعتماد المرحلية في العمل، أو من السر إلى العلن، ومن الأساليب الفكرية إلى استخدام القوة، فهم ليسوا ملزمين باتباع المسار الترتيبي لأسلوب الدعوة الذي اتبعه الرسول (ص)، بل هم ملزمون باتباع الحكمة التي ثبتها القرآن للرسول ولكلِّ رسالي في استخدام الأنسب، ووفق الظروف التي تحيط بالرساليين في ذلك المكان أو الزمان..

 

وخُتمت السيرة النبويّة المعطرة برحلة سيد المرسلين وخاتم النبيين رسولنا الكريم محمد (ص) قُبيل حجة الوداع التي كانت الحجة الأخيرة له عليه أفضل الصلاة والسلام

 

حجة الوادع:

عندما حان موعد الحج من العام العاشر للهجرة، أعلن رسول الله (ص) أنّه سيحج بنفسه في الناس هذا الموسم، فاجتمع إليه الناس من كل مكان، ثمّ ما لبث أن غادر المدينة في الخامس والعشرين من ذي القعدة مصطحباً معه نساءه وابنته فاطمة الزهراء (ع).

وبدأت مراسيم الحج فانطلق آلاف المسلمين يؤدون مناسكهم كما بينها لهم رسول الله (ص). ورأي النبيّ (ص) أن يستفيد من هذا التجمع الكبير فألقى خطاباً شاملاً في عرفة أكّد فيه القيم والتعاليم التي بعث من أجلها.

 

وفاة النبيّ (ص):

اشتدت وطأة المرض على رسول الله (ص)، وحُجب الناس عنه، وكان عليّ (ع) لا يفارقه إلا لضرورة، فلما حضره الموت قال له: ضع يا عليّ رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله تعالى، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثم وجهني إلى القبلة، وتول أمري، وصل عليَّ أوّل الناس، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي، واستعن بالله تعالى.

فأخذ عليّ (ع) رأسه ووضعه في حجره، ففاضت نفسه الشريفة وهو إلى صدره (ع) وكانت وفاته يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة 11 للهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة.►

 


 

الهوامش:

[1]- ابن منظور، لسان العرب.

[2]- في الصناعة: يعني في الإصطلاح العلمي.

[3]- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج12، كتاب التجارة، باب 27، الحديث 2 و8.

[4]- الحر العاملي، وسائل الشيعة، كتاب التجارة، باب 27، الحديث 1.

[5]- الشهيد محمد بن جمال الدين المكي العاملي، ج3، كتاب التجارة، ص398-399.

[6]- أمر رسول الله حزام بن حكيم ببيع الطعام عندما بلغه أنّه يحتكر الطعام، وفي الناس حاجة إليه.

[7]- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج12، أبواب آداب التجارة.

[8]- المصدر نفسه.

[9]- الطوسي، تهذيب الأحكام، ج6، ص229.

[10]- الشيخ الطوسي، المتوفّى سنة 460هـ.

ارسال التعليق

Top