شهر الصوم.. شهر تهذيب القلب والنفس وهو فرصة عبادية أساسية، تمثِّل منطلقاً مهمّاً كي يعيد الإنسان التفكير في حساباته وأوضاعه، ويعمل على تغييرها مع ما ينسجم مع إرادة الله تعالى. في شهر الصوم، من المهم أن نربّي الجوارح على عدم فعل المحرَّمات، بل أن نندفع نحو كلّ فعلٍ أو سلوكٍ يهذّبها وينمّيها في طريق الخير، ومن هذه الجوارح اللسان؛ هذه القطعة الصغيرة التي بها نتكلّم ونخبر ونطلق الجمل والعبارات، ونتناول الموضوعات، وبها ندعو، وبها نذكر الله، وبها نتحرّك في أجواء الخير، وغلق أبواب الشرور والأذى. يقول سبحانه وتعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) (الإسراء/ 53). وجاء في الأحاديث: «يعذِّب الله اللسان بعذاب لا يعذِّب به شيئاً من الجوارح، فيقول: أي ربّ، عذَّبتني بعذاب لم تعذِّب به شيئاً، فيقال له: خرجت منك كلمة، فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفِك بها الدمُ الحرام، وانتهب بها المال الحرام، وانتهك بها الفرج الحرام». «لا يعرف العبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه»، «صلاح الإنسان في حبس اللسان». وقد ورد في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عليه السلام): «حقُّ اللسان إكرامه عن الخنا، وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبرّ بالناس، وحُسن القول فيهم». من هنا، كان تشديد الرقابة من الله على اللسان أكثر من غيره من الجوارح، أيّ التشديد على كلّ كلمة قبل إطلاقها أو كتابتها أو بثّها، توقّياً لمنزلقات هذه الكلمة، ومنعاً من الوقوع في محاذير تبعاتها. إنّ هذا التدبير هو بمثابة علامةً فارقة تميّز المؤمن من غيره: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) (ق/ 16-23). فقد وكّل الله باللسان مَلكاً خاصّاً معدّاً إعداداً خاصّاً للقيام بهذه المهمّة الخطرة في حسابات الله بآثارها ونتائجها. قال سبحانه وتعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (الزخرف/ 80). ولهذا، عندما رأى أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام) رجلاً يتكلّم بكلام من دون وعي وتدبّر لطبيعة كلامه أو لنتائجه، قال: «إنّك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك، فتكلّم بما يعنيك، ودع ما لا يعنيك». ففي الحديث عن الإمام عليّ (عليه السلام): «إنّ قلب المنافق من وراء لسانه، لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلَّم بكلام، تدبَّره في نفسه، فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شرّاً واراه، وإنّ المنافق يتكلَّم بما أتى على لسانه، لا يدري ماذا له وماذا عليه». وفي الحديث: جاء رجل إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله اوصني، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «احفظ لسانك»، فقال: يا رسول الله اوصني، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «احفظ لسانك»، فقال: يا رسول الله اوصني، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «احفظ لسانك، ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم»؟ وفي الحديث عن علي بن الحسين (علیه السلام): «إنّ لسان ابن آدم يشرف على جميع جوارحه كلّ صباح، فيقول كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن تركتنا، ويقولون: الله الله فينا، ويقولون: إنّما نُثاب ونُعاقب فيك».. إذا أردت أن تكون مؤمناً في العمق والحقيقة فعليك أن تخزن لسانك، فتبقي في داخله ما لا يرضي الله من الكلمات، وتطلقه فيما يرضي الله تعالى.
وصوم اللسان عن كلِّ البلايا والخطايا، هو وجهٌ حيٌّ من وجوه عبادة الصوم، والتي تدعو المؤمنين إلى وعي ما تطلقه ألسنتهم، وضرورة ضبطها ضمن موازين الله تعالى وحساباته، فليس في حسابات الله تعالى سوى الألسن التي تلهج بذكره، ولا تقول إلّا الصِّدق، ولا تشهد إلّا بالحقّ، ولا تنطق إلّا بالحسن من القول، والنافع من الكلام الذي يقرِّب بين القلوب، ويهدِّئ من النفوس المضطربة، ففي مداليل الصوم وأجوائه العبادية والروحية، الدعوة إلى ضبط ألسنتنا وتهذيبها، كي تكون ألسُناً ناطقةً بكلِّ ما يوصل إلى مرضاة الله تعالى.
مسؤوليتنا نحن الصائمين، أن نراجع كلّ ما تتفوّه به ألسنتنا، وكلّ ما تتحرّك به، كي نعوّدها على التزام الحقّ والصِّدق والنفع، وأن نواجه أيَّ وهنٍ أو ضعفٍ يتسلّل إليها، فعنوان الإنسان ومفتاح بواطنه هو اللسان، وهذا الإمام عليّ (عليه السلام) يقول: «واعلم أنّ الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به، فإن تكلّمت به صرت في وثاقه». أيّها الصائمون الكرام، فلننتبه إلى ألسنتنا، وكيف نستعملها، وأيّ اتجاه وطريق نسلك بها، كي نتوقّى المحذور في القول، وما يترتّب عليه من أثر في الدُّنيا والآخرة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق