(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الدخان/ 2-6).
الهدف: بيان فضيلة هذه الليلة وترسيخ أهمية وفضيلة إحيائها.
تمثل ليلة القدر عقدة القلب في شهر رمضان، وتبلغ فيها المكرمات قمّة نبوغها، أمر الله تعالى عباده أن يحيوها بأكرم أعمالهم، ويبلغوا فيها أبلغ آماد الصفاء والخشوع... ثمّ ردّدها في ليالٍ عديدة، كي ينصرف الناس فيها إلى الحسنات، وهم لا يخسرون المعروف إن وفّروه في غير ليلة القدر، بل يحتفظون بآثاراته في ركائزهم، مهما تقادمت العهود، وربما كانت الأخيرة ليلة القدر، فالسابقات ترهف تأهّبهم، واعتيادهم العبادة لليلة القدر...
ومن فضل الله سبحانه، أن جعل تصريف الأقدار في هذه الليلة المباركة، التي يخلص الناس فيها لله، وينزعون من صدورهم الأحقاد، والنوايا السوداء، ويحاولون إشاعة المعاني النبيلة في نفوسهم، فيكون أقرب إلى الأقدار الخيّرة، عمّا لو كانت الأقدار توزّع وتأخذ مقرّراتها ومراكزها والناس منهمكون في اشتباك مستميت حول قذارة الدنيا...
وقد قيل: إنّ شهر رمضان هو ليلة القدر.
أحاديث في فضلها:
قال رسول الله (ص): "إنّ الله عزّ وجلّ اختار من الأيام يوم الجمعة، ومن الشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر".
وقال (ص) لأصحابه: "آمنوا بليلة القدر، إنها تكون لعليّ بن أبي طالب وولده الأحد عشر من بعدي".
وعن الإمام عليّ (ع) قال: "قال لي رسول الله (ص): يا عليّ، أتدري ما معنى ليلة القدر؟
فقلت: لا يا رسول الله (ص).
فقال: إنّ الله تبارك وتعالى قدّر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكان فيما قدّر عزّ وجلّ ولا يتك، وولاية الأئمّة من ولدك إلى يوم القيامة".
وقال (ص): "يا عليّ... ليلة القدر خُصّصنا ببركتها ليست لغيرنا".
قال الإمام الباقر (ع): "من وافق ليلة القدر فقامها غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر".
وعن الإمام الباقر عن آبائه (ع): "أنّ رسول الله (ص) نهى أن نغفل عن ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين أو ينام أحد تلك الليلة".
سأل رجل الإمام الصادق (ع) عن ليلة القدر، قال: أخبرني عن ليلة القدر، كانت أو تكون في كلّ عام؟
فقال الإمام (ع): "لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن".
وعنه أيضاً (ع): "صبيحة يوم ليلة القدر مثل ليلة القدر، فاعمل واجتهد".
ليلة القدر ليلة لا يضاهيها في الفضل والمنزلة سواها من الليالي على الإطلاق، والعمل فيها خير من عمل ألف شهر، وفيها من الكرامات والفيوضات الإلهية ما لا يحصى.
سرُّ خفائها:
وتعمدت النصوص إبقاء هذه الليلة مرددة بين ثلاث ليالٍ، وقد سُئل أبو جعفر (ع) في عدّة أحاديث عن ليلة القدر، أيّ الليلتين هي؟ فلم يعيّن، بل قال: "ما أيسر ليلتين فيما تطلب، أو قال ما عليك أن تفعل خيراً من ليلتين".
وقد ورد في سرّ خفائها أنّه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه:
أحدها: أنّه تعالى أخفاها، كما أخفى سائر الأشياء، فإنّه أخفى رضاه في الطاعات، حتى يرغبوا في الكلّ، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كلّ الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظّموا كلّ الأسماء، وأخفى في الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكلّ، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلّف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلّف، فكذا أخفى هذه الليلة ليعظِّموا جميع ليالي رمضان.
ثانيها: كأنّه تعالى يقول: لو عيّنت ليلة القدر، وأنا عالم بتجاسركم على المعصية، فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية، فوقعت في الذنب، فكانت معصيتك مع علمك أشدّ من معصيتك لا مع علمك، فلهذا السبب أخفيتها عليك. رُوي أنّه (ع) دخل المسجد فرأى نائماً، فقال: "يا عليّ نبهه ليتوضّأ، فأيقظه عليّ، ثمّ قال عليّ: يا رسول الله إنك سبّاق إلى الخيرات، فلِمَ لم تنبهه؟ قال: لأنّ ردّه عليك ليس بكفر، ففعلت ذلك لتخفَّ جنايته لو أبى". فإذا كان هذا رحمة الرسول، فقس عليه رحمة الربّ تعالى، فكأنّه تعالى يقول: إذا علمت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسب عقاب ألف شهر، ودفع العقاب أولى من جلب الثواب.
ثالثها: أني أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلّف في طلبها، فيكتسب ثواب الاجتهاد.
رابعها: أنّ العبد إذا لم يتيقّن ليلة القدر، فإنّه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان، على رجاء أنّه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر، فيباهي الله تعالى بهم ملائكته، يقول: "كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء".
فضائل ليلة القدر:
1- ليلة مباركة: قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) (الدخان/ 3).
2- مضاعفة الثواب: قال تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر/ 3). وقد ذكرت النصوص أنّ العمل في هذه الليلة له أجر وثواب العمل في ألف شهر.
3- نزول القرآن: قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر/ 1)، ولا يخفى أنّ إنزال القرآن في هذه الليلة إنما كان دفعةً واحدة على قلب رسول الله (ص).
4- ليلة التقدير والإبرام: قال تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان/ 4). ففي هذه الليلة يطلع الله ملائكته على شؤون السنة كلّها من الأعمار والأرزاق والإبتلاءات وسوى ذلك، ولا يخفى أنّ تقدير الله لا يحدث في تلك الليلة، فإنّه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض في الأزل، بل المراد إظهار تلك الليلة المقادير للملائكة في تلك الليلة بأن يكتبها في اللوح المحفوظ.
5- نزول الملائكة: قال تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر/ 4).
6- ليلة سلام ورحمة: قال تعالى: (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر/ 5).
فضيلة إحياء ليلة القدر:
وهذه الليلة يُستحبُّ إحياؤها حتى مطلع الفجر بالأعمال الخاصة والعامة الواردة وبالإكثار من الصلاة والاستغفار والدعاء لمطالب الدنيا والآخرة، والدعاء للوالدين والأقارب والإخوان المؤمنين والصلاة على النبيّ وآله، فقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (ع): "مَن أحيا ليلة القدر غُفرت له ذنوبه ولو كانت عدد نجوم السماء ومثاقيل الجبال ومكاييل البحار".
وأمّا ما يُستحبُّ الدعاء به فقد رُوي أنّ النبيّ قيل له: "ماذا أسأل الله تعالى إذا أدركت ليلة القدر"؟ قال: "العافية".►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق