عندما نريد أن نتحدّث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّنا نتحدّث عن قمم الروح والفكر والجهاد والانفتاح على الواقع الإسلامي كلّه من موقع القيادة والرياسة والمسؤولية، والإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) عاش مرحلته في حركة العلم في جميع حاجات الناس آنذاك، وعندما ندرس حركته من خلال الذين تعلّموا منه ورووا عنه، فإنّنا نجد مدرسته تتميّز بالتنوّع في الذين أخذوا منها ما أخذوه من علم، بحيث لم تكن مدرسته مدرسةً مذهبيةً تقتصر على الذين يلتزمون بإمامته وحسب، بل كان مرجعاً لكلِّ الناس الذين يتنوّعون في اهتماماتهم. وقد كانت عظمة أهل البيت (عليهم السلام) ـ كما هو دورهم ـ أن يرصدوا الساحة في حركتها واتجاهاتها، وما هي السلبيات التي يمكن أن تدخل في عمق الفكر الإسلامي من خلال خطّ منحرف هنا، وحركة فوضى في الوعي الثقافي هناك.
ومن هنا، فقد واجه الإمام الكاظم (عليه السلام) كلَّ التيارات الجديدة المنحرفة التي حاولت أن تفرض نفسها على الواقع الإسلامي لتبتعد به عن الخطّ المستقيم، فواجهها بالفكر الإسلامي النقيّ الصافي الذي أخذه عن آبائه (عليهم السلام) عن جدّهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرائيل عن الله تعالى.. وكان (عليه السلام) يبرز الرأي الصحيح في كلِّ خلاف فكري على مستوى القضايا العقيدية والشرعية وكافة المفاهيم الإسلامية، وكان في كلِّ مواقفه ناصحاً للمسلمين في شؤونهم الخاصّة والعامّة وشتّى مجالات حياتهم. حيث كانت المرحلة التي عاشها الإمام الكاظم (عليه السلام) مرحلة وعي ثقافي أغناها بعلمه، واستفاد منها أساتذة المجتمع كلّه.. كانت رسالته ـ التي هي رسالة الإسلام ـ، أن يرصد حركة الناس في الأُمور الصغيرة والكبيرة، ولا يتركهم يسيرون على هواهم ويخضعون لتيارت الانحراف، سواء كان انحرافاً عقيدياً أو اجتماعياً أو سياسياً، فكان يوجّههم ليتمكّنوا من تجاوز هذا الانحراف، وكان من خلال ذلك يُوحي إلى كلِّ العلماء من بعده أن يتحرّكوا في علمهم وحركتهم في قلب المجتمع، ليدرسوا حركة سيره هل هي في خطّ الاستقامة أو في خطّ الانحراف؟ لأنّ الله تعالى لم يعطِ الإنسان علماً إلّا من أجل أن يوظّفه في إصلاح المجتمع وهدايته.
وعلى الرغم ممّا عاشه الإمام (عليه السلام) من ظروف قاسية وصلت حدَّ المأساة، إلّا أنّه لم يهن أو يضعف أو يسقط، بل كان يزداد قوّة وروحانية، وهو ينتقل من سجن إلى سجن بأمرٍ من الخليفة العباسي هارون الرشيد، الذي عرف تأثير الإمام الكاظم (عليه السلام) في الواقع الإسلامي، وكيف حصل على الثقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي بعلمه وروحانيته وأخلاقه، فضيَّق عليه، وما زاده حنقاً عليه هو أنّ الناس لا يقدّرون الإمام (عليه السلام) كعالِم وحسب، شأنه شأن بقية العلماء الآخرين، بل كانوا يعتقدون بإمامته وينفعلون بقداسته. وقد روى الناسُ عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب الله وأحسنهم صوتاً بالقرآن، وكان إذا قرأ يَحْدُرُ ويبكي ويبكي السامعون لتلاوته، وكان الناس بالمدينة يسمّونه زين المتهجِّدين، وسمّي بالكاظم لما كظمه من الغيظ وصبرَ عليه من فعل الظالمين به.
وقد سُئِل (عليه السلام): هل يَسَعُ الناسَ تركُ المسألة عمّا يحتاجون إليه؟ - يعني هل للناس الحرّية إذا جهلوا شيئاً ممّا يتصل بمسؤولياتهم في حركتهم في الحياة، هل لهم الحرّية في أن يبقوا على جهلهم؟ ـ قال: «لا»، فليس لك الحرّية أن تبقى جاهلاً، فإذا جهلت فتعلّم، ونحن نعرف أنّ الإسلام جعل القيمة للعلماء، بأنّهم الذين يخشون الله، كما في قوله سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28)، وفي قوله عزّوجلّ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر/ 9)، وقوله سبحانه: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الزمر/ 9).. وهكذا ورد في الحديث: «إنّ الله أخذ على الجُهّال أن يتعلَّموا كما أخذ على العلماء أن يعلِّموا».مقالات ذات صلة
ارسال التعليق