الارتقاء منه ما هو مادّي، ومنه ما هو روحي. فالارتقاء المادّي يتمثّل في الكشوف العلمية، واختراعات الآلة، وفي هذه الصناعات الكبرى والأنظمة والقوانين. وهي وإن كانت عظيمة ومحكمة، ووفرت للناس بعض الرخاء والرفاهية المادّية، فهي لا توصل إلى الله، ولا تصلح النفس الإنسانية، ولا ترحم الضعيف، ولا تحقق المحبّة، ولا تجلب السلام، ولا تقضي على العداوة والبغضاء، ولا تصل بالإنسان إلى كماله المنشود.
أمّا الارتقاء الروحي فهو غاية من الغايات التي يستهدفها الإسلام، وهو يتجلى في الإيمان واليقين، والطيبة والسماحة، والمحبّة والمودّة، والرحمة والشفقة، والإيثار والتضحية، وإقرار السكينة في النفوس، والطمأنينة في القلوب، والعدل بين الناس، والسلام العام. ومن أجل أن يتحقّق الارتقاء الروحي كان لابدّ من الإيمان بالله إيماناً يدفع الإنسان إلى الخير، ويجنّبه الشرّ، ويحمله على أداء الواجب، ويمنعه من التقصير فيه. وهذا هو الإيمان الذي أراده الإسلام، وأي انحراف عنه فهو انحراف عن الإسلام نفسه، ومن ثمّ يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإن صام، وصلى، وحج، واعتمر، وزعم أنّه مسلم». الإيمان لابدّ أن يتجسّد، ويبرز في صور عملية، فليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل. ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكّد على معنى وهو، أنّ ذلك هو العقل والكيْس، وأنّ ما عداه حماقة لا تليق بإنسان فيقول: «الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق مَن أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني». قيل للإمام الحسن (عليه السلام): إنّ قوماً يقولون: نحن نحبّ الله ويضيعون العمل. فقال: «هيهات هيهات، تلك أمانيهم يتأرجحون فيها، مَن رجا شيئاً طلبه، ومَن خاف شيئاً هرب منه».
وليس العمل مجرد عمل، بل لابدّ وأن يفرغ الإنسان روحه فيه، وأن يكون يقظاً حريصاً على انتهاز الفرص معنياً بالإصلاح والتقدّم، وتوفير الوقت اللازم لذلك. وقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إذا أتى عليَّ يوم لم أزدد فيه علماً، ولم أزدد فيه هدى، فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم». ويدعو أُمّته إلى الحرص على كلّ نافع مادّي وأدبي، وينهاهم عن العجز والكسل فيقول: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان».
حتى حين يدعو الإنسان، فمطلوب منه أن يعظم المسألة، يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «وإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنّه أعلى منازل الجنّة». وبهذا فتح الإسلام أبواب الأمل والعمل لمن يبتغي الوصول إلى أسمى ما قدر له من كمال. وملاك ذلك كلّه ضبط النفس، ومجاهدتها حتى تستقيم على الصراط الذي يبلغ بها إلى الغاية. فما لم تكن ثمة مجاهدة فليس الإنسان ببالغ شيء، والله يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69). فمواهب الله لا تُعطى جزافاً، ولا تهبط اعتباطاً، وإنّما هي كفاء جهادٍ كريم، وتضحية غالية. والمجاهدة إنّما هي ثمرة قوّة الإرادة، والتمرس بالصبر، والثبات، وتحدي المثيرات، والتغلب على المغريات، والوقوف منها كالصخرة الصماء الراسخة أمام الرياح العاتية. يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما يكون من خير فلن أدخره عنكم... ومَن يستعفف يعفه الله، ومَن يستغن يغنه الله، ومَن يتصبر يصبره الله». فالعفة والغنى والصبر ثمرة الاستعفاف والاستغناء، والتصبر أي: مجاهدة النفس وحملها على الاتصاف بهذه الخلال الكريمة. وقوام الإرادة القوية الطمع في رحمة الله، والخوف منه. وغاية ذلك كلّه أن يصل الإنسان إلى المستوى الإنساني الرفيع، وأن يحقق إرادة الله فيه؛ ليندمج في عباد الله الصالحين الذين سبقت لهم من الله الحُسنى. لقد كانت غاية أنبياء الله أن يحقّقوا هذا الهدف الأعلى ويصلوا إليه، فكانت أعمالهم وأقوالهم تتجه بهذا الاتجاه. يقول النبيّ يوسف (عليه السلام): (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف/ 101). فلم يكتف بما أفاض الله عليه من نبوّة وبما وهبه من علم، وبما أعطاه من ملك. وإنّما طلب إلى ذلك كلّه أن ينتظم في سلك عباد الله الصالحين، وأن يلقى الله وهو مسلم. ويقول سليمان (عليه السلام): (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل/ 19). وهذا أسمى ما يمكن أن يصل إليه إنسان، يقول تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (العنكبوت/ 9).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق