• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المدرّس والتنين

علي عفيفي

المدرّس والتنين

 

منذ أن وضعت الحرب الكونية الثانية أزوارها بهزيمة المرّيخيّين في معركة المقاتلات الفضائية، ومن ثم جلائهم عن كوكب الأرض، ومحمود يسكن بجوار أطلال القاهرة القديمة التي هجرها جميع البشر، منذ أن استوطنها المريخيون وفجروا مفاعلها النووي. ومنذ أن انتقل إلى مقرة الجديد من قريته الريفية، إثر عمله كمدرس في القاهرة الجديدة، وهو يشعر بالخوف والرهبة من تلك البقايا الصامتة، خاصة بعدما سمع الكثير من الحكايات والروايات، التي يتناقلها أهالي المنطقة عن الخفافيش التي تخرج في الليالي القمرية الصافية لخطف البشر وأكلهم، وعن الأفعى الكبرى التي خرجت في إحدى الليالي المطيرة البهيمة، وأخذت تفح فحيحاً عظيماً وتنفث ناراً من فمها في وجوه كل مَن تراه فتحرقه. إلا أنه كان مضطراً إلى الإقامة في هذه الشقة؛ فالحصول على مسكن في القاهرة الجديدة، أصبح صعباً للغاية بعدما هجر كثير من سكان القاهرة القديمة مساكنهم إليها، خوفاً مما يسمعون عن المخلوقات الأسطورية التي يرسلها المريخيون بين الحين والآخر، لتَعبث في الأرض فساداً فترهب أهلها وتدمر مساكنهم، حيث نشطت مخابراتهم في محاولة للقضاء على الجنس البشري، ليتمكنوا بعد ذلك من استيطان الأرض لحاجتهم الشديدة إلى المياه التي تُردد وكالاتهم الكونية كلاماً عن قرب نضوبها من على الكوكب الأحمر. اللية يشعر بتوتر غريب وخوف شديد إثر شائعة يرددها الجميع عن تنّين أرسله المريخيون، يقوم بابتلاع الإنسان فيمتص دمه ويهشم عظامه، ثم يقذف بها. وكل يوم يقرأ في الجرائد الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية، عن ضحايا ذلك الكائن الغريب الذي يجنده المريخيون بهدف القضاء على بني الإنسان، ومن ثم يتمكنون من احتلال الأرض بلا مقاومة ولا قتال. أحكم أبواب شقته ونوافذها الإلكترونية، ثم استلقى على سريره ليذهب في نوم مليء بالأحلام والكوابيس المفزعة، فتارة يرى التنين الأسطوري يدق زجاج نافذته، وتارة يجد نفسه مستقراً في ظلمة باطنه، إلى تنفس الصباح بالضياء على الكون لتسرب إلى داخل غرفته سنا من نسيمه، فاستيقظ مسرعاً إلى ارتداء ملابسه وسترته الواقية، خوفاً من الإشعاعات النووية التي ملأت كوكب الأرض إثر تفجير المحتلين المريخيين المفاعلات النووية الكبرى الموجودة فيها. أدار محرك سيارته الصاروخية لينطلق بأقصى سرعة، وهو يتصفح الجرائد الإلكترونية اليومية عبر جهاز الحاسب الآلي الموجود فيها، ليستقر بصرة على خبر بثته وكالة الأنباء الفضائية الكونية عن انتقال التنين الأسطوري، المجند من قِبل المريخيين من قارة أوروبا إلى قارة أفريقيا عبر البحر المتوسط سابحاً، مؤكدين أنه لا يتأثر ببرودة الجو ولا بحرارته. ويشير آخر الأنباء ألى أنه سيستقر في أطلال القاهرة القديمة، حيث إنها أصبحت مركزاً للتحكم في تلك الكائنات الآلية الأسطورية التي يرسلها المريخيون إلى الأرض. ما إن قرأ الخبر، حتى شعر برعشة اهتز لها جسده، ونبض لها قلبه؛ وارتجفت أنامله وارتعدت فرائصه. وأوشك على أن يفقد زمام السيطرة على سيارته التي كادت تصطدم بسيارة أخرى، لولا القدر الذي نجّاه من اصطدام مؤكد، ليتوقف أمام بوابة المدرسة، ويشاهد الذعر على أوجه الجميع من أثر الخبر الذي بثته الوكالة الفضائية الكونية للأخبار. لكنه، على الرغم من ذلك، دلف إلى داخل الفصل، وبدأ شرح درسه في مادة التاريخ عن بداية ظهور عصر العولمة والإنترنت في القرن العشرين، وعصر الحداثة والـ«سوبر حداثة»، وما بعد الحداثة والعدمية في القرن الحادي والعشرين، ثم انتقل إلى عصر الفضاء والعصر المريخي الأول الذي شهد الغزوة المريخية الأولى للأرض، والتي انتهت بجلائهم بفضل المناضل العربي ماجد المخزوم، وما تبعها من الحرب الكونية الأولى في محاولة من المريخيين لاستعادة سيطرتهم على الأرض ونشاط المخابرات المريخية، وكيف تصدت لها المخابرات البشرية دفاعاً عن الأرض، إلى أن نجح المريخييون في استعادة سيطرتهم عليها بواسطة الأفعى الأسطورية التي تلفح وجه كل من تراه بنار تنفثها من فمها. وترتّب على ذلك بدء حرب التحرير الأرضية وما تبعها من الحرب الكونية الثانية، التي شهدت دخول أحياء من كواكب أخرى إلى جوار البشريين الذين تمكنوا من إعادة تحرير الأرض مرة أخرى. فجأة، بينما هو مسترسل في شرح الدرس، هشم التنين الأسطوري زجاج الفصل الإلكتروني، وأطلقت أجهزة الإنذار صرخة محذّرة منذرة بصوت شديد، فعم الهرج والضوضاء المدرسة. وراح ذلك التنين يلتهم الواحد تلو الآخر ليعصره ويلقي بعظامه مهشمة، وكان الكثير من التلامذة يلقون بأنفسهم من نوافذ المدرسة التي انفتحت جميعها آليا في أعقاب انطلاق صافرة الإنذار. راح محمود يعدو وذلك التنين يلاحقه ويطلق بين برهة وأخرى زئيراً شديداً أشبه بزئير مئتي أسد في صوت واحد، ليبث داخل الجميع الرعب والفزع. وعم الخبر القاهرة، فخرجت الأسر مغادرة منازلها إلى الصحراء لدى أقاربهم حتى تزول الغمامة. ملأ الذعر والفزع قلب محمود وجسده الذي أطلق لقدميه العنان في العدْو إلى أي جهة شاءت، ليصطدم فجأة بطرق المدرسة المغلقة آلياً، ويصبح وجهاً لوجه أمام التنين الذي وقف أمامه، وراح ينظر إليه بعينيه الواسعتين المشقوقتين طولياً كأعين الثعابين، وأذرعه تتحرك في حركة سريعة من دون توقف، وذيلة الطويل يمتد خلفه لأكثر من مئة متر، وجسده المليء بالأشواك السامة، وهو يحدق إليه بعينيه، والرعب يسري في جسد محمود، وقلبه كاد يمزق قفصه الصدري إلى خارج جسده، لدرجة أنه أغمض عينيه وراح يترقب لحظة النهاية، مستسلما، منتظراً أن يلتهمه التنين الذي يقف منتصباً أمامه ويفح فحيحاً ينم عن غضبه الشديد منه. كان التنين يقف غاضباً، والمدرس يقف مستسلماً. وامتلأ فناء المدرسة من جديد في لحظة ترقب، ولكن التنين لا يقترب منه، لابد أن معه شيئاً يخيفه ويمنع اقترابه منه. تحسس جيوبه فعثر في داخلها على المصحف الشريف، وتأكد أن ذلك الكتاب الخالد هو الذي يمنع اقتراب التنين منه، فسارع إلى إخراجه، وأخذ يتلو آيات من الذكر الحكيم، وكان التنين يزأر زئيراً عظيماً يزداد شدة، كلما هو ازداد قراءة، وشعر بأنه يختنق فراح يتلو بصوت شديد يطغى على صوت زئير التنين وهو يختنق ويختنق. فجأة، انفجر التنين إلى قطع صغيرة تناثرت في الأرجاء كافة، إلا أن قلب محمود، وأمام الخوف الشديد والرعب منقطع النظير، توقف عن النبض ليَخرّ على الأرض فاقداً الوعي. يفيق محمود على سرير المستشفى، وحوله الكثير من الصحافيين ومراسلي وكالات الأنباء الفضائية والكونية، الذين يرغبون في معرفة السلاح الذي نجح بواسطته في القضاء غلى ذلك الوحش، الذي أرسله المريخيون بعدما طوروه ليواجه أنواع الأسلحة كافة. وبينما هو ينظر حوله في دهشة مع الشعور بالنصر، راح يتحسس جسده وهو غير مصدق أنه نجا من بين فكي ذلك التنين المفترس. ولكنه انتبه إلى حقيقة انتصاره، وأنه خلّص الأرض من غزوة مريخية مؤكدة، وأنه أصبح بطلاً سيخلده التاريخ، مثلما خلّد أخاه المناضل العربي ماجد المخزوم، فهب واقفاً أمام كاميرات التلفويونات الليزرية، وأخذ يتحدث بثقة عن انتصاره العظيم الخالد، محتفظاً بسر سلاحه لنفسه ليخلّده التاريخ.

ارسال التعليق

Top