• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وثيقة المدينة المنورة: الأسس والمبادئ

عمار كاظم

وثيقة المدينة المنورة: الأسس والمبادئ

كانت بداية التطبيق العملي لمبدأ التسامح منذ قدوم الرسول الكريم صلى الله عليه وآله مهاجرا إلى المدينة المنورة فعمل من أول وهلة على تأسيس الدولة المدنية حيث أبرم صلى الله عليه وآله في السنة الأولى من الهجرة النبوية وثيقة أو دستورا بين أهل المدينة بطوائفها كلها وهي الوثيقة السياسية الأولى واشتملت على أربعة بنود رئيسة وثمان وأربعين (48) فقرة في العلاقة والمواطنة والتعايش. والبنود هي:-

البند الأول: الأمن الجماعي والتعايش السلمي بين جميع مواطني دولة المدينة.

البند الثاني: ضمان حرية الاعتقاد والتعبد.

البند الثالث: ضمان المساواة التامة لمواطني دولة المدينة في المشاركة الفاعلة في مجالات الحياة المختلفة تحقيقا لمبدأ أصيل تقوم عليه الدول الحديثة في عالم اليوم وهو مبدأ المواطنة الكاملة فضمن دستور المدينة هذا الحق لكل ساكنيها في وقت لم يكن العالم يعي معنى كلمة الوطن بالتزاماته وواجباته.

البند الرابع: ترسيخ إقرار مبدأ المسؤولية الفردية وأصل هذه المسؤولية الإعلان عن النظام وأخذ الموافقة عليه.

وعلى أثر هذه الوثيقة زادت رقعة معاملة المسلمين لغير المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وآله على أساس مبدأ التسامح الذي فاضت به نصوص القرآن الكريم وبينته السيرة النبوية قولا وفعلا بعد ذلك. وتعد هذه المعاهدة الوثيقـــــــــــــــــــــة الأولى التي

احتوت على بنود محققة للمواطنة وحقوق المواطنين وواجباتهم من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.

وتنبع القيم التخطيطية في هذه الوثيقة من أنها تتعلق بمختلف الأحكام التنظيمية للمجتمع الإسلامي وأنها دستور « وهذه الكلمة هي أقرب مصطلحات العصر الحديث لهذه الوثيقة «. وقد عالجت هذه الوثيقة كل ما يمكن ان يعالجه اي دستور حديث يعني بوضع الخطط العامة والكليات المهمة لنظام المجتمع والدولة حيث عالجت هذه الوثيقة العلاقات الداخلية والخارجية الداخلية تعني العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة مع بعضهم بعضا وكذلك علاقتهم مع الآخرين. ونريد أن نتبين تلك الأسس من خلال تحليلنا لأهم ما ورد في بنود الوثيقة النبوية:

1. قوله صلى الله عليه وآله «أنهم أمة واحدة من دون الناس» يقر فيه صلى الله عليه وآله مبدأ الوحدة الوطنية بين ساكني الوطن الواحد فهم رعايا الدولة أو شعب الدولة في ذلك الوقت.

2. قوله صلى الله عليه وآله «وأن من تبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم» ينص فيه صلى الله عليه وآله على ضرورة مناصرة المواطنين غير المسلمين والوقوف إلى جوارهم تأكيدا لحقهم في ذلك على المسلمين ضد أي اعتداء عليهم.

3. قوله صلى الله عليه وآله «وأن يهود بني عوف أمة على المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ {يهلك} إلا نفسه وأهل بيته» أعلان صريح للوحة الوطنية بين طوائف المجتمع قانونها العدل دون الظلم والاعتداء الظالم ان يتحمل عاقبة ظلمه.

4. قوله صلى الله عليه وآله: «وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين» يقرر صلى الله عليه وآله من خلاله مبدأ المساواة بين المواطنين من مسلمين وغيرهم في مؤازرة الدولة اقتصاديا حال محاربتهم للأعداء كما يقر فيه ضرورة الموالاة والنصرة بين الطرفين ضد العدو.

5. قوله صلى الله عليه وآله: «وإن على اليهود نفقتهم وأن على المسلمين نفقتهم» يقر فيه مبدأ التكافل الاقتصادي عند توزيع الأعباء الاقتصادية على فئات المجتمع بكل أطيافه.

6. قوله صلى الله عليه وآله: «وأن ليهود بني النجار... وأن موالي ثعلبة كأنفسهم» يقر فيه مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين ومختلف طوائف الدولة في كنف الدولة الإسلامية.

7. قوله صلى الله عليه وآله: «وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم» يحدد فيه أولويات المناصرة بين أهل هذه الصحيفة وبين أعدائهم الذين يحاربونهم وهذا مفهوم عسكري دفاعي مع توضيح ضرورة التعاون في إبداء الرأي والنصيحة والتشاور وهذا مفهوم اجتماعي أصيل للمواطنة.

8. قوله صلى الله عليه وآله «وأنه لا يجبر مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن» يمنع أي تعاون بين طوائف المجتمع وأعدائه سواء في حماية النفوس أم الحفاظ على الأعراض والأموال.

9. قوله صلى الله عليه وآله «وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه» يوضح فيه بيان مبدأ المسؤولية الشخصية وتقريره للفرد والجماعة على حد سواء فكل إنسان مسؤول عما اقترف وهذا مبدأ من مبادئ الإسلام السمحة أنه لا يعاقب الجماعة أو يؤاخذها بسلوك فرد انطلاقا من قوله تعالي: {ولا تزر وازرة أخرى} (الانعام:164) وقوله سبحانه: {كل مرئ بما كسب رهين}، (الطور:21) وقوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} (المدثر:38) وهذا غاية العدل والإنصاف.

10. قوله صلى الله عليه وآله «وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة» أبلغ دليل من النبي صلى الله عليه وآله على تحديد نطاق مفهوم المواطنة الجغرافي وانتماء المواطن لوطنه.

11. قوله صلى الله عليه وآله «وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها» يقرر فيه قطع أي تعاون عسكري مع أعداء الوطن ومعاونيه في الظلم.

12. قوله صلى الله عليه وآله « وأن بينهم النصر على من دهم يثرب وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم «ينص فيه النبي صلى الله عليه وآله على مبدأ أصيل من مبادئ المواطنة وهو وجوب الدفاع عن الوطن كما ينص على أن النصر يكون دائما في حال الحق والعدل لا في حال الظلم والإثم فلا يعطي حق المواطنة للمواطن حق البراءة إذا ظلم أو أثم لأن الدين الإسلامي يناصر الحق ويقف بجواره وينهي عن الباطل ويواجهه.

هذا بعض ما قررته الوثيقة وبنودها من حقوق المواطنة منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله إذ نصت على أن جميع المواطنين {مسلمين وغير مسلمين} يعاملون على أساس واضح من المساواة فليس هناك مواطنون من الدرجة الأولى وآخرون من الدرجة الثانية أو الثالثة فاعتبار العقيدة لا وجود له والجميع أمام الشريعة وأحكام الحقوق والواجبات سواسية لا فرق بينهم. ومن ثم كانت هذه الوثيقة مثلا أعلى للمواطنة أقرت بحقوق المواطنين في الوطن الواحد وبينت أنه لا فرق بينهم في تحمل المسؤوليات وأنه لا حق لأحد أن يمنح شيئا من التمييز على حساب الآخر أو أن يفرق بينه وبين غيره على أساس عقدي أو عنصري فالإسلام يقرر أن معيار التمييز والتكريم هو العمل الصالح وخدمة المجتمع والحفاظ على أمنه وسلامته.

ارسال التعليق

Top