الزُّهدُ في الدُّنيا، مقامٌ شريفٌ من مقامات عباد الله السالكين مسالك الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، رُوِي عن النبيّ الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ما عُبِد الله بشيء أفضل من الزُّهد في الدُّنيا». وحقيقة الزُّهد هي الانصراف عن الشيء إلى ما هو خيرٌ منه، ولابدّ أن يكون الانصراف والرغبةُ عن الشيء المحبَّبِ حتى تُسمّى الرغبة عن الشيء زهداً، فالزاهد الصادق دائم الأُنس بالله تعالى، وتغلب عليه الطاعة، بالإضافة إلى أنّ العبد الزاهد يستوي عنده ذامُّه ومادِحهُ. والزاهد الحقّ لا يفرح بموجود، ولا يحزَن على مفقود، قال مولانا أميرُ المؤمنين (عليه السلام): «الزُّهدُ كلّه بين كلمتين من القرآن: قال الله سبحانه، لكَيْلا تأْسَوْا على ما فاتكُم، ولا تَفرحوا بما آتاكم، ومَن لم يأْسَ على الماضي، ولم يفرح بالآتي، فقد أخذ الزُّهدَ بطرفَيه». وقال (عليه السلام): «طوبى للراغبين في الآخرة الزاهدين في الدُّنيا، أُولئك قوم اتّخذوا مساجد الله بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طهوراً، والقرآن شعاراً، والدُّعاء دثاراً، ثمّ قرضوا من الدُّنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم (عليه السلام)».
إنّ الزُّهد من القيم الإسلامية والخلق الإنسانية الرفيعة التي تبرز أصالة الإنسان في هذه الحياة، وتدلّ على مدى تجذّر الإيمان والأخلاق في نفسه وقلبه وعقله، ولهذا الزُّهد ركائز يتقوم بها ويتميّز، فالزُّهد يقوم على قِصر الأمل، فلا ينصت الإنسان إلى صوت نفسه التي تزيّن له الحياة، وتغريه بالأماني المعسولة، وتمنّيه بطول العمر وكأنّه إنسان خالد في الدُّنيا. كما يقوم الزُّهد على شكر النِّعم، بأن يطيع الإنسان ربّه بالعمل لا بالقول فحسب، وأن يعيش الحمد والشُّكر لله، فلا يقنط وييأس في الضرّاء، ولا يبطر في السرّاء، بل يتذكّر الله باستمرار، وأنّه هو المنعم والرَّازق، ووحده يستحقّ الحمد والدُّعاء والشُّكر. كما يقوم الزُّهد على التورّع عن محارم الله تعالى، فيكفّ المرء نفسه عمّا حرم الله، ويقف عند الشُّبهات، ويعيش الورع في نفسه في كلّ الظروف والأحوال.
إنّ الله تعالى لم يدع للإنسان من عذرٍ يتعلّل به، فقد منحه نور العقل والقدرة والإرادة، وأوضح له سبيل الهداية من الكُتُب المنزلة ومن بعث الرُّسل، وكلّ ذلك كان بمثابة الحجّة الكاملة لله على مَن تسوّل له نفسه أن يتخطّى حدود الله ويعتدي على عباده وعلى الحياة. يقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «أيّها الناس، الزهادة قِصَر الأمل، والشُّكر عند النِّعم، والتورّع عن محارم الله، فإن عَزَب ذلك عنكم، فلا يغلب الحرام صبركم، ولا تنسوا عند النِّعم شكركم، فقد أعذر الله إليكم بحجج مسفرة ظاهرة، وكُتب بارزة العذر واضحة». نتعلّم من كلام الإمام (عليه السلام)، كي نربي قيمة الزُّهد في نفوسنا ونفوس أبنائنا، بأن نطيع الله بالعمل الصالح النافع، ولا نتعدّى حدوده، وأن نعيش الشُّكر لله في كلِّ الأحوال، وأن نتورّع عمّا حرَّم الله، وأن نقبل على ما دعانا إليه من كلم طيِّب وعمل صالح يرفعه.
ومن جميل ما سمعنا عن الزُّهد، قال الإمام عليّ (عليه السلام): «رَحِمَ الله امرأً قصَّر الأمل، وبادر الأجل، واغتنم المهل، وتزوّد من العمل». وقال سلمان المحمّدي (رضي الله عنه): «ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمّل الدُّنيا والموت يطلبه، وغافل لا يغفل عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أمسخط ربّه أو مرضيه». ودخل رجل على أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه)، فجعل يُقلّب بصره في بيته، فقال: «يا أبا ذر! أين متاعكم؟ فقال أبو ذر: إنّ لنا بيتاً نوجّه إليه صالح متاعنا، فقال الرجل: إنّه لابدّ لك من متاع ما دمت هاهنا، فقال أبو ذر: إنّ صاحب المنزل لا يدعنا فيه»، فأبو ذر غريب في الدُّنيا يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده، وهو من الجنّة، وإلى الجنّة:
كم منزل للمرء يألفه الفتى***وحنينه أبداً لأوّل منزل.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق